أكثر من نصف قرن فصلت بين رحيل مؤلم وعودة محملة بالشوق إلى القاهرة، خلال هذه السنوات تقلبت "جوليانا مايو" بين الثقافة الفرنسية والحلم الأميركي، لكن نبتة حنين إلى الشرق بقيت في روحها، لتعود من جديد إلى مدينة القاهرة، وتؤلف رواية عنها، سمتها "مدينة الشمس".
ورحلت "مايو" عن مصر في عمر الثالثة؛ إذ أبعدت السلطات المصرية، في أعقاب العدوان الثلاثي، الكثير من العائلات اليهودية عن البلاد؛ منهم من هاجر إلى إسرائيل، لكن الأغلبية هاجرت إلى أوروبا وأميركا، كحال عائلة جوليانا التي انتقلت في بادئ الأمر إلى فرنسا، ومنها إلى الولايات المتحدة.
واستعادت جوليانا ما تركته لها عائلتها من ذكريات لتكتب رواياتها "مدينة الشمس"، ثم تعكف حاليًا على تحويلها إلى عمل سينمائي أو تلفزيوني أميركي، وبموازاة ذلك انتهت مؤخرًا المترجمة المصرية مروة آدم من تعريب الرواية.
ذكريات ما قبل الرحيل
وفي حديث إلى موقع سكاي نيوز عربية تسترجع الكاتبة الأميركية اليهودية جوليانا مايو قصة أصولها المصرية؛ كما تروي تفاصيل الرواية التي ألّفتها واتخذت من مصر مسرحًا لأحداثها.
تعود "مايو" إلى عام 1956 أثناء العدوان الثلاثي على مصر، التي تصفه بـ "أزمة قناة السويس" فتقول إن عائلتها طُردت من مصر في هذه الأثناء، لتتخذ من فرنسا ملجأ لها، "كنت حينها طفلة صغيرة، ليس لديها أية عاطفة تربطها بمصر، واندمجت سريعاً في الثقافة الفرنسية".
وتضيف: "على الرغم من ذلك، لم تتركني مصر لحظة، فلقد اعتاد والدي التحدث بالفرنسية داخل المنزل، وفي حالة رغبتهم في ألّا يفهم أولادهم ما يُقال، كانوا يتحدثون العربية، مما دفعني جاهدة لمحاولة فهم ما يُقال، وبهذا استطعت فهم اللغة العربية على الرغم من عدم تحدثي بها".
"أيضًا احتفظا والدي بالعادات والقيم المصرية، خاصة الطعام المصري، برغم أنهما قد تركا مصر".
وتستطرد: "والدي تحديدًا كان لديه العديد من الحكايات عن مصر، لقد كان شخصًا رياضيًا حتى أنه كان عضوًا في فريق التجذيف بالقوارب الذي كان ينافس في مسابقات دولية آنذاك، دائمًا ما كان يقصّ عليَّ كيف كان يتدرب بجد ودأب، كما أنه كان عضوًا في نادي هليوبوليس الرياضي".
"كان لديه أصدقاء يهود وأوربيون؛ حيث كان يعشق قضاء الشتاء بالقاهرة والصيف بالإسكندرية. عاش حياة حلوة، فلقد منحته مصر فرحة العيش، ورغدة".
وتصف مايو حياة والدتها كامرأة تعيش في القاهرة بأنها كانت مختلفة عن تلك التي كان يعيشها والدها، "والدتي لم تكن تغادر المنزل إلا بصحبة مرافق، كان لديها عائلة كبيرة، تربطها بأفرادها أواصر وثيقة، الأمر الذي جعلها تفتقد تلك الروابط العائلية عند ذهابها إلى فرنسا إلا أنها كامرأة شعرت هناك بحرية أكثر من تلك التي تمتعت بها في مصر".
العودة إلى الجذور
تقول جوليانا مايو إنها كانت دائمًا تشعر في قرارة نفسها وعقلها بأنها فتاة فرنسية، وبعد أن انتقلت إلى الولايات المتحدة، في عمر المراهقة، احتضنت الحلم الأميركي، "لم أبدأ في التنقيب عن جذوري المصرية حتى ولادة ابنتي ناتاشا، أردت أن أعرفها من أين أتت والدتها وأجدادها".
"من هنا بدأت رحلتي في القراءة والبحث عن مصر، سحرني ما قرأت حتى أنّي أردت أن أكتب كتابًا، فلقد شعرت بالفخر بجذوري المصرية".
وعن زيارتها لمصر فيما بعد رحلة القراءة هذه، تقول: "لقد ذهبت إلى مصر ثلاث مرات؛ أثناء واحدة منهم زرت خلالها منزل والدي وجدودي في هيليوبليس، كانت تلك لحظات مؤثرة لا تُنسى، اصطحبت ابنتي وزوجي إلى هناك، كما قمت بزيارتين من أجل البحث قبل الشروع في كتابة الرواية".
وهنا تؤكد جوليانا أن كتابها لا يناقش قضية يهود مصر بشكل منفصل، على الرغم من أنهم محور أحداث الكتاب؛ إذ تقول: "ما دفعني وحفزني بشدة لكتابة هذا الكتاب أن تبعات الاستعمار والحرب نالت مني شخصيًا، فلولا قبضة إنجلترا على مصر واستهانتها بالشعب المصري، لتغيّر تاريخ مصر ومنطقة الشرق الأوسط برمتها".
"كذلك كان لتحالف هتلر مع مفتي القدس والإخوان أثر على الشرق الأوسط، يجب أن يفهم الجميع تلك الأحداث الجسام ذات البعد التاريخي والسياسي وكيف أثرت على حياة الملايين".
أحداث الرواية
تدور أحداث رواية "مدينة الشمس" في إطار خيالي عن صحفي أميركي يُعين من قبل السفارة الأميركية في القاهرة للبحث عن لاجئ يهودي ألماني، فيزيائي، وصل حديثًا إلى أرض مصر، وفي أثناء رحلة البحث، يقع الصحفي الأميركي في براثن الحب.
تقول جوليانا: "على الرغم من إطار السرد الخيالي للقصة، إلا أنّي استطعت غزل أحداث الرواية بحقائق تاريخية وشخصيات حقيقية التقى بها الصحفي الأميركي في رحلة بحثه عن اللاجئ اليهودي الألماني، في أوقات كثيرة كنت أشعر أن الكتاب يكتب ذاته بذاته، فهو وثيق الصلة بالواقع".
وفي ختام حديثها لموقع سكاي نيوز عربية تقول جوليانا إن الرسالة التي تريد تقديمها في كتابها؛ أنه في يوم من الأيام، عاش على أرض مصر جالية يهودية متميزة، تعجّ بالحياة والفرح، جالية يهودية عاشت في سلام مع العرب. "من المؤسف أن هذا المشهد قد ولى بلا رجعة، لذلك أريد أن أقصّه على الجميع".
الطبعة العربية
في ذات السياق ننتقل إلى المترجمة المصرية مروة آدم التي انتهت لتوّها من ترجمة رواية مدينة الشمس؛ حيث تقول إنها تترقب إصدار الطبعة الأولى من النسخة العربية، حتى يمكن للقارئ العربي الاطلاع على هذا الإنتاج الأدبي الهام.
وتشير آدم في حديثها لموقع سكاي نيوز عربية إلى أننا أمام رواية رومانسية تنسج خيوط أحداثها في إطار اجتماعي يستند إلى وقائع تاريخية، "أذهلني البحث الذي قامت به جوليانا مايو على مدار عشر سنوات؛ إذ قامت بدراسة تاريخ مصر ومنطقة الشرق الأوسط إبان الحرب العالمية الثانية".
وتتابع المترجمة المصرية: "سردت لنا جوليانا كيف كان حال الجالية اليهودية في مصر ونظرائهم في أوروبا الذين هربوا من ويلات النازية، مدينة الشمس تروي لنا الجزء المفقود في تاريخ مصر والصراع الذي ما زالت رحاه دائرة حتى يومنا هذا، إنها رواية تبحر بنا إلى الجانب المقابل من الشاطئ لنرى الآخر الذي لا نعرفه".
تحدي الترجمة
ترى مروة آدم أن الترجمة بدورها تهدف إلى عبور الجسور لتربطنا ببعضنا البعض؛ عوضًا عمّا فرقته المسافات وما خلفته السياسات والاختلافات العرقية من صدع، "من واقع كوني مترجمة وإنسانة مؤمنة بالتواصل مع الآخر، أشعر بمسؤولية سرد ذلك الجزء المفقود من تاريخ مصر والشرق الأوسط لأقصه على كل باحث عن الحقيقة".
وعلى الصعيد المهني والإنساني تحملت المترجمة بحسب ما تقول مسؤولية تناول هذه الحقبة من التاريخ التي عانت كثيرًا من التعتيم والإهمال؛ إذ تشبه قلم جوليانا مايو أشبه بمشرط الجراح البارع الذي يضع يده على الداء.
"حازت تلك الرواية التي كتبتها جوليانا باللغة الإنجليزية على مكانة متقدمة في مبيعات موقع أمازون الشهير، كما حازت على إعجاب كبار النقاد والكتاب، مما أشعرني بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقي حتى ترى الرواية النور بسطور عربية وتصل إلى ملايين القراء في العالم العربي".
وفي ختام حديثها لموقع سكاي نيوز عربية تقول المترجمة المصرية مروة آدم، إن رواية "مدينة الشمس" رواية قائمة على بحث أكاديمي دقيق، "قبل الشروع في ترجمة العمل، تحققت بنفسي من صدق وأمانة المعلومات التاريخية المذكورة وهذه عادتي عند اختيار العمل الذي أقوم بترجمته، لذلك أستطيع القول بكل ثقة أن رواية "مدينة الشمس" تأريخ سياسي واجتماعي وثقافي يتسم بالدقة والأمانة في آن واحد".