في مثل هذا اليوم 26 يونيو1879م..
خلع اسماعيل باشا خديو مصر وتنصيب الأمير محمد توفيق خديوي على مصر بعد خلع والده الخديوي إسماعيل.
خاتمة النزاع بين الخديوي إسماعيل والدائنين:
قابلت الدوائر الأوربية السياسية والمالية إقصاء الوزيرين الأجنبيين عن الوزارة بالإستياء والسخط ، وزعمت أن الدول نالت حقاً مكتسباً بأن يكون لها وزيران يمثلانها في الوزارة المصرية ، فأخذت تناوئ الوزارة الجديدة وتخلق لها العقبات والعراقيل.
وقد سلك شريف باشا إزاء الدول مسلك التعقل والحكومة ، فعرض يوم 8 أبريل سنة 1879 ، على وكيلي الدولتين الإنجليزية والفرنسية إعادة الرقابة الثنائية ، وطلب إليهما إبلاغ حكومتيهما لتختارا الرقيبين ، ولكي يبرهن على مبلغ اعتزامه احترام هذا النظام عرض على السير إڤلن بارنگ ( اللورد كرومر ) العضو الإنجليزي في صندوق الدين ، والمسيو بليگ دى بوگاس Bellaigue De Bughas العضو الفرنسي قبول منصبي الرقيبين مؤقتاً إلي أن يرد جواب حكومتيهما ، فرفضا ما عرض عليهما ، وبنيا الرفض على معارضتهما في مشروع اللائحة الوطنية ، واستقال أعضاء لجنة التحقيق الأوربية يوم 10 أبريل إستقالة إجماعية من عضوية اللجنة إحتجاجاً على تأليف الوزارة الوطنية قائلين في احتجاجهم إن الاصلاحات المالية لا ينتظر إنفاذها إلا على يد وزارة يتمثل فيها العنصر الأوربي ، ووقع على كتاب الاستقالة أعضاء اللجنة جميعهم ، وهم ريفرز ولسون ، وبارافللي ، وبارنج ( كرومر ) وبليج دي بوجاس، ودي بلينيير، وفون كريمر ، أما رياض باشا فقد عزل من منصبه ( وكالة اللجنة ) قبل استقالة الأعضاء ، واستقال أيضاً في ذلك الحين بعض كبار الموظفين الأجانب كالمستر فتزجرالد مدير حسابات الحكومة ، والمسيو بلوم وكيل وزارة المالية ، والسير أوكلن كولفن مدير مصلحة المساحة.
وغني عن البيان أن احتجاج أعضاء لجنة التحقيق ينطوي على تعسف ظاهر ، فإن وزارة نوبار باشا وقد كان العنصر الأوربي صاحب النفوذ الأكبر فيها ، لم تقم بأي إصلاح في شؤون الحكومة المالية ، بل زادت الحالة تعقيداً وارتباكاً ، أما تأليف الوزارة الوطنية في ذاته ، فعمل لا يدعو إلي الاحتجاج ، لأنه مما لا نزاع فيه أن الدولتين الإنجليزية والفرنسية إتفقتا و الخديوي حين تأليف وزارة نوبار باشا على إعادة الرقابة الثنائية في حالة غقالة أحد الوزيرين الأوربيين من منصبه من غير موافقة حكومته ، ومعنى ذلك أن للخديوي الحق في الاستغناء عن الوزيرين ، أحدهما أو كليهما ، وله أن يؤلف وزارة خالية من العنصر الأوربي ، ولا جناح عليه في ذلك مادام العمل بنظام الرقابة الثنائية يعود كما كان ، وقد اعترف المسيو وادنجتون Waddington وزير خارجية فرنسا بهذا الحق في رسالة إلي قنصل فرنسا العام في مصر إذ قال : " طبقاً للاتفاق المبرم بين فرنسا وإنجلترا ومصر بتاريخ 14 أكتوبر الماضي قد أوقف العمل بنظام الرقابة الثنائية ، ولكن على شرط إعادته حتما إذا عزل أحد الوزيرين الفرنسي أو الإنجليزي من منصبه من غير موافقة دولته ".
ومما يؤيد هذا الحق أن المرسوم الصادر يوم 12 ديسمبر سنة 1878 في عهد وزارة نوبار باشا يوقف العمل بنظام الرقابة الثنائية قضي في المادة الأولى بوقف تطبيق هذا النظام " مؤقتاً " ، فهذا التوقيت معناه أنه لم يلغ نهائياً ، وأنه يعود إذا عزل أحد الوزيرين الأوربيين ، فتأليف الوزارة الوطنية هو إذاً عمل لا غبار عليه من وجهة الحق والقانون ، ولكن أعضاء لجنة التحقيق قصدوا باستقالتهم إحراج مركز الخديوي ، فلما رأى منهم هذا العنت والإحراج لم ير بداً من قبول استقالتهم.
مرسوم 22 أبريل سنة 1879
ثم أصدر الخديوي مرسوم 22 أبريل سنة 1879 بتسوية الديون طبقاً لما قررته اللائحة الوطنية ، وقد جاء في ديباجة المرسوم " بناء على المحضر والتقارير التي عرضت علينا من الأمة ، وما عرض من مجلس النظار / أصدرنا أمرنا بموافقته وإجراء تسوية ديون الحكومة على الوجه الآتي "
وهذه الديباجة كما ترى هي ولا شك صيغة جديدة في مراسيم إسماعيل لم تكن مألوفة من قبل ، إذ تدل على أن روح الديمقراطية واحترام مطالب الأمة والاعتداد برأيها ، وتلك الروح التي ظهرت في كتاب الخديوي إلي شريف باشا، وقد تجلت أيضاً في مرسوم 22 أبريل ، وهي روح طيبة حقاً ، ولكنها مع الأسف لم تظهر إلا متأخرة.
لم يكن على مرسوم 22 أبريل أي غبار من وحهة المصالح الأوربية ، لأنه كفل حقوق الدائنين وأقر التعهدات المالية التي ارتبطت بها مصر ، وقد اعترف المسيو وادنجتون وزير خارجية فرنسا في رسالته إلي وكيلهما السياسي في مصر ( القنصل العام ) أنه لا يختلف في النقط الجوهرية عن مشروع ريڤرز ولسون وبالرغم من ذلك فقد احتج أعضاء صندوق الدين على هذا المرسوم ورفعوا على الحكومة قضية أمام المحاكم المختلطة.
مجلس شورى الحكومة:
وبذل شريف باشا من ناحيته كل ما في وسعه ليدخل الطمأنينة إلي الدوائر الأوربية بالنسبة للقوانين التي اعتزمت الحكومة إصدارها ، فاستصدر مرسوماً في 23 أبريل 1879 بانشاء (مجلس شورى الحكومة) ومهمته وضع مشروعات القوانين ، وغالبية أعضائه من الأجانب ، ولكن الحكومتين الإنجليزية والفرنسية اصرتا على موقفهما وطلبتا إلي الخديوي بلسان وكيليهما السياسيان في مصر إعادة الوزيرين الأجنبيين ، فأجابهما بأن ليس في مقدوره إزاء مطالب الرأي العام قبول هذا الطلب ، وأصر شريف باشا من ناحيته على الرفض ، وأصر على الاستقالة إذا قبل الخديوي إعادة الوزيرين الأوربيين ، وأيد الخديوي موقف شريف باشا ، فاشتدت الأزمة بين إسماعيل والدول ، وأخذت هذه تعمل لخلعه من الأريكة الخديوية.
إن السبب الظاهر الذي انتحلته الدوائر الأوربية للسعي في خلع الخديوي هو إقصاؤه الوزيرين الأجنبيين وتأليفة وزارة مؤلفة من أعضاء وطنيين ، ونعتقد أن هذا لم يكن السبب الحقيقي ، أو السبب الوحيد ، ولو كان كذلك لما رضيت الدول بعد خلع إسماعيل أن تكتفي بإعادة نظام الرقابة الثنائية ، فمعروف أنه لما تولى توفيق باشا مسند الخديوية عدلت الدولتان عن إصرارهما على تعيين الوزيرين الأوربيين ، وقبلتا أن يعين الرقيبان الأجنبيان ، واكتفتا بأن يكون لهما حق حضور جلسات مجلس النظار وأن يكون لهما فيه صوت استشاري ( مرسوم 15 نوفمبر سنة 1879 ).
فهناك إذن أسباب أخرى غير إقصاء الوزيرين الأجنبيين عن الوزارة جعلت الدول تأتمر بإسماعيل ، وأهمها خوف الماليين الأوربيين على ديونهم أن تكون عرضة للضياع إذا بقي إسماعيل في الحكم ، واعتقادهم أن وعوده في الوفاء بها لا تبعث على الثقة ، وأنه لا يتردد في إنكارها والتخلص منها إذا استطاع إلي ذلك سبيلا، ولا غرو فهو أدرى الناس ببطلان الجانب الأكبر من هذه الديون وفداحة فوائدها الربوية وما التهمه الماليون والمرابون من قيمتها قبل أن تدخل الخزانة وبعد أن دخلتها ، فسعى الماليون لدى رجال السياسة ليحملوهم على التخلص من الخديوي كي يطمئنوا على ديونهم ، وكان لآل روتشلد نصيب كبير في هذه المساعي.
فالعامل المالي كان إذن السبب الأساسي في خلع إسماعيل ، وثمة عامل آخر سياسي ومالي معاً ، وهو ما لحظته الدول على الخديوي في عهده الأخير من مناصرته الحركة القومية ، واستجابته لمطالب الأحرار ، وقبوله مبدأ مسئولية الوزارة أمام مجلس شورى النواب ، وشعوره بالأخطاء التي وقع فيها وأفضت إلي التدخل الأجنبي ، وسعيه في مقا ومة هذا التدخل وإصلاح الأغلاط القديمة.
والدول الاستعمارية تنظر بعين الاستياء إلي ازدهار النهضة القومية وتأليف حكومة وطنية تنهض بالبلاد وتسلك بها سبيل الدول المستقلة ، وتحول دون تحقيق أطماع أوربا الاستعمارية ، فلا جرم أن أوجست أوربا خيفة من انضمام إسماعيل إلي هذه الحركة ، ومناصرته إياها ، لأن إنضمام ملك قوي الإرادة ، شديد الذكاء ، عالى الهمة ، مثل إسماعيل ، إلي الحركة القومية مما يشد أزرها ويكسبها قوة وروعة ، فلا غرو أن سخطت عليه الدول الاستعمارية وسعت إلي خلعه ، فهو من هذه الوجهة قد ذهب ضحية تأييده للنهضة القومية ، وإن كان قبل كل شيء ضحية ديونه واخطائه ، لأن هذه الديون هى التى مكنت للدول الأوروبية في البلاد، وخولها من النفوذ والسلطه ما جعلها ترفع عقيرتها وتملى عليه إرادتها.
سعت الدول إذن في كسر شوكة إسماعيل، وبدأ بينهما الصراع الذى انتهى بخلعه.
وكان إسماعيل يؤمل ألا تقوى الدول على إملاء شروطها عليه ، ولا تجرد السلاح لإعادة الوزيرين الأجنبيين ، بل تدع الأمور تتطور حسب الظروف.
ذلك ان انجلترا كان يشغلها وقتئذ بعض المشاكل ، وخاصه حرب الزولو في أفريقية الجنوبية ، واضطراب الأحوال في رومانيا ، فظن الخديو أن هذه المشاغل لاتدع لها فرصة التدخل في المسأله المصريه ، وخاصه لأن وزارة دزرائيلى لم تكن بالقوة التى كانت لها من قبل.
أما فرنسا فلم يكن إسماعيل يحسب لتدخلها حساباً كبيرأ ، لأن النظام الجمهورى الذى قام فيها عقب الحرب السبعينية لم يكن قد استقر بعد، فضلا عن أن هزائمها في تلك الحرب أضعفت شوكتها في السياسة العالمية إلى حين.
وكان يؤمل إلا يطول العهد بالنظام الجمهورى وأن الحكم سيعود للامبراطورية ، ومما يؤثر عنه أنه قال عقب عزل الوزيرين الأجنبيين" بعد ثلاثه أشهر ستعود الإمبراطورية في فرنسا، ولقد كانت الإمبراطورية حليفة لي، ومن هنا إلى ثلاثة أشهر لا تستطيع الدول أن تعمل عملا ما".
على أن آمال إسماعيل كانت قائمة على خطأ في التقدير، ولو كان على بينة من الأمر لعرف أن يجب أن يعتمد عليها في فض تدخل الدول هى قوة البلاد الحربية والمالية والمعنوية ، فلو أن في مصر وقتئذ جيشأ قويأ يحمى الذمار ويدفع العارة كما كان في عهد محمد على وإبراهيم لصان لمصر حريتها واستقلالها، ولكن إسماعيل لم يستمر على العمل للنهوض بالجيش المصرىوتقويتة حتى يحتفظ بمكانته التى كانت له في عهد ابيه وجده ، وهو وإن عنى بذالك في اول عهده بالحكم لكنه مالبث أن تراخت عنايته به ، حتى وصلت البلاد في اخر عهده إلى حاله من الضعف الحربى والمالى والمعنوى بحيث لم تكن تقوى على مقاومة التدخل الأجنبي.
هذا فضلا عن أن إسماعيل نفسه لم يكن مؤيدأ تأييدأ قلبيأ من الشعب ، ولا من ضباط الجيش ، لأنهم كانو يعتقدون أن سياسته هى التى افضت إلى التدخل الأجنبى ، وقد حاول أن يستشير إخلاص ضباط الجيش وولاءهم إذا اشتدت الأزمة ووصلت إلى حد امتشاق الحسام ، ولكنه أنس فيهم فتورأ عن مناصرته بالقوة. فتامل في موقف إسماعيل إذ تألبت عليه الدول الأوروبية، وموقف محمد على من قبل حينما تألبت عليه تلك الدول ذاتها مؤتمرة مع الباب العالى ، تر الفرق عظيمأ بين الموقفين. فمحمد علي لم يكترث لهذه المؤامرة ، ولم يعبأ بالفرمان الذى أصدره السلطان نجله سنة 1840 ، وبقي ثابتأ على عرشه ، لأنه كان مطمئنأ إلى قوة البلاد الحربية التى كانت موضوع عنايته طوال عهده ، أما إسماعيل فقد كانت الرسالة البرقية الوجيزة التى أرسلها إليه السلطان منبئة بخلعه كافيه لسقوطه عن العرش، ذلك أنه لم يكن في البلاد قوة حربية يعتد بها ، بل كانت مفتحة الأبواب للتدخل الأوربى ، وإنك لواجد من هذة المقارنه أن ثمة مرحله طويلة.
مرت بين سنة 1840 و 1879 ، تبدلت فيها الحال غير الحال ، وقعت فيها أحداث جسام ، تراجعت لها قوة البلاد الحربية والمعنوية ، وتصدع لها بناء الاستقلال المالي والسياسي ، ومن مظاهر هذا التصدع تدخل الدول الأجنبية في خلع إسماعيل ونزوله على حكمها.
اعتمد إسماعيل إذاً على أساس واه مقاومة التدخل الأوربي ، وبنى أمله على انصراف الدول ذات الشأن عن التدخل بالقوة في شؤون مصر ، ولكن الحوادث قد جاءت على خلاف تقديره.
صحيح أن فرنسا وإنجلترا لم تحركا ساكناً مدة قاربت شهرين ، وكان يمكن أن تظلا على هذا الموقف طويلاً ، ولكن عاملاً جديداً ظهر في الميدان عجل بتدخل الدول الأوربية جمعاء ، ذلك العامل هو ألمانيا ، أو بعبارة أخرى بسمارك.
فألمانيا قد خرجت فائزة من الحرب السبعينية ، فأراد بسمارك أن يزج بها في غمار المسائل الدولية ليرفع من شأن الإمبراطورية الألمانية الجديدة ويعلن عن قوتها ويكسب لها إنتصارات سياسية بعد إنتصاراتها في ميادين الحرب والقتال.
وقد وجد من المسألة المصرية ميداناً فسيحاً لإظهار سطوة ألمانيا ، وهكذا قضى سوء الطالع في ذلك العهد أن تكون مصر فريسة لمختلف الأهواء والمطامع الاستعمارية الأوربية فإذا تراخت دولة من دول الاستعمار أو انصرفت عنها لسبب ما تقدمت دولة أخرى لتنال منها مأربها ذلك أن النزعة الاستعمارية والمطامع الاشعبية تجمع كلمة الدول على النهب والعدوان.
رفعت ألمانيا عقيرتها في المسألة المصرية ، ودعت الدول إلي التدخل لإجبار إسماعيل على الخضوع لمطالبها ، وكانت حجتها أن الخديوي لا يملك إصدار قوانين مالية تمس حقوق الدائنين الأجانب من غير موافقة الدول طبقاً للائحة ترتيب المحاكم المختلطة ، وإنها تعتبر المرسوم الصادر في 22 أبريل 1879 باطلاً ، وابلغت الدول وجهة نظرها ، فلاقت قبولاً وتأييداً من انجلترا وفرنسا وإيطاليا والروسيا.
وقدم قنصل ألمانيا إلي الخديوي في 18 مايو سنة 1879 احتجاج حكومته على المرسوم المذكور ، وحذت الدول حذو ألمانيا فقدم قنصل النمسا والمجر ذات الاحتجاج إلي الخديوي في 19 مايو ، وقدم القنصل الإنجليزي في 7 يونيه ، والقنصل الفرنسي في 11 منه والقنصل الروسي في 12 منه والقنصل الإيطالي في 15 منه.
وقد أجاب شريف باشا على هذا الاحتجاج بأن بعث بصورة من مرسوم 22 أبريل إلي وكلاء الدول للتصديق عليه ، ولكنها رفضت التصديق.
خلع إسماعيل: 26 يونيو 1879
وكأن انجلترا وفرنسا قد شعرتا بشىء من الخجل الاستعماري لرؤيتهما ألمانيا وهي أقل منهما مصالح ومطامع في مصر ، تسبقهما إلي وجوب التدخل، فاعتزمتا ألا تقتصرا على فكرة الحكومة الألمانية في طلب نقد المرسوم الذي أصدره الخديوي، بل عملتا على خلعه من العرش.
وقد وجدنا الطريق أمامهما معبداً في الأستانة ، فأن الحكومة العثمانية لم تكن تعطف على إسماعيل أو ترضى منه نزعته الاستقلالية ، وزين لها قصر النظر أن الألتجاء إليها لعزل الخديوي يكسبها نفوذاً كبيراً لم يكن لها منذ وطد محمد على دعائم الدولة المصرية ، فليس يكفي أن الباب العالي لم يسبق أن عزل والياً من الأسرة المحمدية العلوية ، والفرمان الذي أصدره سنة 1840 بعزل محمد على قد بقي عديم الأثر ، ولم يحفل به محمد على ، فخلع إسماعيل هو الحادث الوحيد الذي ظهرت فيه سلطة الباب العالي في عزل الخديويين ، وهي سلطة تستهوي حكومة الأستانة التي لم تكن تنظر في العواقب ، وقد فات هذه الحكومة الحمقاء أن إقصاء إسماعيل عن الحكم وخلعه بإرادة الدول ، هو تمكين لهذه الدول من التدخل في شؤون مصر تحقيقاً لمطامعها الاستعمارية ، إذ لا يوجد تدخل أقوي من إسقاط صاحب العرش عن عرشه ، وهكذا كانت سياسة تركيا نحو مصر قائمة على سوء النية وقصر النظر.
فتركيا لم تخدم سياستها ، ولا خدمت مصر بإجابتها مطالب الدول ، وليس يخفى أن فرنسا لم تكن في إشتراكها وإنجلترا بعيدة النظر أيضاً لأنها لم تخدم المصالح الفرنسية، بل مهدت الطريق لأنفراد إنجلترا بالتدخل في شؤون مصر واحتلالها على عهد الخديوي توفيق باشا.
سعت إذاً كل من إنجلترا وفرنسا سعيها في الأستانة للتخلص من إسماعيل ، فلما وجدت الدولتان أن الباب العالي مستعد لخلعه أتفقتا أولاً على أن تطلبا منه التنازل عن العرش من تلقاء نفسه اتبعأ لمشورتهما، لتجعلا لنفسهما سلطاناً أقوى في مصير مصر ، إذ يكون التنازل قد تم بإرادتهما وتدخلهما، فأرسلتا إلى قنصليهما في مصر لأبلاغ الخديوى اتفاق الدولتين ، فقابله القنصلان وأبلاغاه رساله الحكومتين، ومضمونها أنهما تنصحان للخديوي رسميأ بالتنازل عن العرش ، والرحيل عن مصر وأنهما متفقتان في حاله قبوله نصيحتهما على أن تضمنا له مخصصات سنويه لائقة به، وان لا يحصل تغيير في نظام توارث العرش الذى يقضى بان يكون الأمير توفيق باشا خلفأ له، فتأثر الخديوى بهذه الرساله تأثرأ عميقأ ، وشعر بالسهم المصوب إلى مركزه ومصيره ، فطلب مهله يومين ليفكر في الأمر، ولما انقضى الميعاد جاءه القنصلان ، يطلبان جوابه النهائي، فأجابهما أنه عرض الأمر على السلطان وأنه ينتظر جوابه، وجاءه قنصل المانيا وقنصل النمسا، وطلبا إليه التنازل عن العرش مؤيدين طلب قنصلي إنجلترا وفرنسا، وكان جوابه لهما مثل جوابه لزميليهما، وكان إسماعيل يأمل من الأنتظار أن تختلف الدول في طلب خلعه، وأن تنجح مساعيه الشخصيه لدى السلطان عبد الحميد، وأذ أوفد إليه بالأستانة طلعت باشا أحد رجال حاشيته ليستميل رجال المابين إلي جانبه ، وزوده بالمال والرشا والهدايا، ولكن السلطان أعرض ونأى بجانبه عنه ، وقد يكون لقلة المال المعروض دخل في هذا الإعراض ، وكانت الدول مجتمعه على التخلص منه وأستقر عزم السلطان على خلعه إجابه لطلب الدول، وفي ليلة 24 يونيه ورد على المسيو تريكو قنصل فرنسا العام في مصر نبأ برقي من الأستانة، فحواه أن الباب العالي عوّل على عزل الخديوي وتولية الأمير حليم باشا ( عبد الحليم ) مكانه ، وبالرغم من ورود هذا النباء في ساعة متأخرة بعد منتصف الليل ، دي سورما قنصل المانيا ، إلي سراي الخدوي وطلب مقابلته ، فأحدث مجيئهم في تلك الساعة المتأخرة من الليل انزعاجاً في السراي ، وخاصة بين السيدات من أل إسماعيل ، وتوهمت والدة الخديوي أن سمة مكيدة تدبر لقتلة، فرجته أن لا يقابلهم ، ولكنه إذ علم أن القادمين هم قناصل إنجلترا وفرنسا والمانيا ، وأن شريف باشا كان معهم، رضي بمقابلتهم ، وكان في حالة إضطراب شديد فطلب إليه القناصل أن يتنازل عن العرش ولكنه رفض وسبت على الإباء.
وكان يأمل حتى أخر لحظة أن تختلف الدول فيما بينهم ، أو يرفض السلطان النزول على رأيهن ، ولكن الدول بقيت على إجماعها في شئنه ، وما زال سفرائها في الأستانة يستعجلون قرار الخلع حتى نالوا بغيتهم ، وأصدر السلطان بناء على قرار مجلس الوزراء " إرادة " بخلع إسماعيل وتنصيب توفيق باشا خديوياً لمصر ، وطير الصدر الأعظم هذه الإرادة بالتلغراف إلي إسماعيل يوم الخميس 26 يونيو سنة 1879 ، وهذا تعريبها :
” " إلي سمو إسماعيل باشا خديوي مصر السابق.
أن الصعوبات الداخلية والخارجية التي وقعت أخيراً في مصر قد بلغت من خطورة الشأن حداً يؤدي استمراره إلي ايجاد المشاكل والمخاطر لمصر والسلطنة العثمانية؛ ولما كان الباب العالي يرى أن توفير أسباب الراحة والطمأنينة للأهالي من أهم واجباته ومما يقضيبه الفرمان الذي خولكم حكم مصر، ولما تبين أن بقائكم في الحكم يزيد المصاعب الحالية، فقد أصدر جلالة السلطان إرادته بناء على قرار مجلس الوزراء بإسناد منصب الخديوية المصرية إلي صاحب السمو الأمير توفيق باشا وأرسلت الإرادة السنية في تلغراف آخر إلي سموه بتنصيبه خديوياً لمصر، وعليه أدعو سموكم عند تسلمكم هذه الرسالة إلي التخلي عن حكم مصر احتراماً للفرمان السلطاني".
وصلت هذه الرسالة التلغرافية إلي سراي عابدين في ضحى ذلك اليوم ، وتسلمها أولاً ذكي باشا السر تشريفاتي ، وكان معه في حجرته بالدور الأول من السراي خيري باشا المهردار " حامل الختم " ، وبعض كبار الموظفين ، فلما رأوا الرسالة مصدره بعنوان إسماعيل باشا " خديوي مصر السابق " ، وجفت قلوبهم ، وعلاهم الأضطراب والاصفرار ، وفهموا أنها تحوي شراً مستطيراً ، وحاروا في طريقة إلي الخديوي ، الذي كان وقتئذ بالدور الثاني ، فامتنع ذكي باشا عن أن يحملها إليه ، واحال هذه المهمة إلي المهر دار ، فأبا خيري باشا قائلاً أن هذا من شأن الوزراء ، وبينما هما يتجادلان ، أقبل شريف باشا رئيس الوزراء ، فسلمت إليه الرسالة ، وأدرك ما تحويه ، فرأى من واجبه أن يحملها بنفسه إلي الخديوي ، فصعد إلي الطابق الثاني وقابل إسماعيل وسلمه الرسالة ، ففضها وتلاها ، وعلم فحواها ، فقابلها بالصمت والجلد ، وطلب إلي شريف باشا أن يدعوا إليه الأمير توفيق باشا فوراً.
فخرج شريف من حضرة " الخديوي السابق " ، ليقابل الخديوي الجديد وذهب إليه في سراي الأسماعيلية ، وكان توفيق باشا قد تلقى الرسالة البرقية الأخرى بأسناد منصب الخديوية إليه ، فذهب الأمير إلي سراي عابدين يصحبه شريف ، وصعد وحده إلي الطابق الثاني فتلقاه أبوه مخاطباً إياه " يا أفندينا " وسلمه سلطة الحكم ، وكان الموقف مؤثراً ، ثم ترك إسماعيل قاعة العرش ، ودخل الحرملك ، تكتنفه الهموم والأحزان.
وفي اليوم نفسه في منتصف الساعة السابعة مساءً أقيمت حفلة تولية الخديوي توفيق باشا في سراي القلعة ، واستقبل فيها وفود المهنئين وأخذ إسماعيل يتأهب للرحيل عن البلاد.
رحيله إلي منفاه:
وحدد يوم الإثنين 30 يونيو للرحيل عن الديار المصرية ، وقضى إسماعيل هذه الأيام الثلاث يستعد للسفر ، ويجمع ما استطاع أخذه من المال والمجوهرات والتحف الثمينة من القصور الخديوية ونقلها إلي الباخرة ( المحروسة ) التي كانت معدة لركوبه بالإسكندريه وكان يوم رحيله يوماً مشهوداً ، أذ ازدحمت سراي عابدين منذ الصباح بالكبراء والذوات الذين جاءو يودعون الخديوي السابق ، وفي منتصف الساعة الحادية عشر أقبل الخديوي توفيق على أبيه يودعه ، وعند الساعة الحادية عشر خرج الخديوي السابق متوكئاً على نجله ودلائل الحزن بادية عليه ، وركب العربة وجلس توفيق باشا على يساره ، وركب بعدهما الأمراء والكبرء ، وسار الموكب حتى بلغ محطة العاصمة وكان الجند مصطفين على الجانبين تحيي للخديوي السابق.
ولما بلغ الركب المحطة ترجل إسماعيل باشا ووقف توفيق باشا يودعه وعيناه مغرورقتان بالدموع وكان إسماعيل شديد التأثر من هذا المنظر ، منظر رحيله النهائي عن القاهرة التي كانت مسرحاً لمجده وبذخه وسلطانه السنين الطوال ، فوقف يخطب الحاضرين خطاباً مؤثراً ثم التفت إلي نجله وودعه قائلاً:
” "لقد اقتضت إرادة سلطاننا المعظم أن تكون يا أعز البنين خديوي مصر، فأوصيك بأخوتك وسائر الآل براً، واعلم أني مسافر وبودي لو استطعت قبل ذلك أن أزيل بعض المصاعب التي أخاف أن توجب لك الارتباك، على أني واثق بحزمك وعزمك، فاتبع رأي ذوي شوراك، وكن أسعد حالاً من أبيك." “
—الخديوي اسماعيل مخاطباً ابنه الخديوي توفيق
وقال الذين شهدو هذا المنظر أنه أبكاهم جميعاً.
ثم ركب القطار الخاص ، فبلغ الإسكندرية في الساعة الرابعة بعد الظهر واستقبله فيها في محطة القباري محافظ الثغر، وبعض الرؤساء والكبراء ، وركب الزورق المعد له ، وتبعته زوارق المشيعين ، وسار حتى أستقل الباخرة ( المحروسة) ، ولما وصل إليها أطلقت المدافع إذاناً بوصوله ورفعت البوارج الحربية أعلامها تحية له ، وأستقبل على ظهر الباخرة بعض المشيعين الذين جاءو يودعونه الوداع الأخير.
ولم يملك إسماعيل صبره ، فترك مشيعيه بعد أن ودعهم ، ونزل إلي غرفته بالباخرة ، ثو غادرها المودعون ، وبعد هنيهة أقلعت ( المحروسة ) وأخذت تشق عباب الماء حتى غابت عن الأبصار ، ومالت شمس النهار إذ توارت بالحجاب ، فغربت معها شمس إسماعيل ، وسارت الباخرة إلي نابولي تحمل العاهل الذي قضى سبعة عشر عاماً يحكم مصر بمطلق إرادته ، ثم انهار بأن فقد عرشه وملكه وماله ، وكم من مرة أقلته ( المحروسة ) من قبل في إبان مجده ، وشهدت رحلاته إلي الأستانة وإلي أوربا ، حين كان يروح ويغدو تحفه المهابة والجلالة ، وتعني له الأماني والآمال ثم حملته للمرة الأخيرة بعد ان نزل عن عرشة ، وطويت صفحته ، وقضي عليه بالنفي والحرمان ، فكانت خاتمتة إحدي عبر الزمان.
ولا مجال للشعور بالعطف على إسماعيل والأعجاب بما أبداه من الشجاعة والإباء بالازمة التي أنتهت بنزوله عن العرش ورحيله إلي منفاه ، فقد كان حقاً عظيماً في موقفه ، شجاعاً في محنته وناهيك بشجاعته جعلته يغامر بعرشه في سبيل مقاومة الدول الأوربية جمعاء، فلو هو ارتضى الذل والهوان، وأذعن لمطالب الدول، وقبل عودة الوزيرين الأوروبيين يسيطران على حكومة مصر ومصيرها، لضمن لنفسه البقاء على عرشه ، ولكن أثر المقاومة على الأستمساك بالعرش، وقليل من الملوك والأمراء من يضحون بالعرش في سبيل المدافعة عن حقوق البلاد ، فالصفحة التي انتهى بها حكم إسماعيل هو بلامراء من الصحائف المجيدة في تاريخ القومية ، لأنها صفحة مجاهدة واباء وتضحية، وهي لعمرى تضحية كبرى، لأن عرش مصر وتاجها وصولجانها ليست من الأمور الهينة التى يسهل على النفوس العاديه أن تزهد فيها ، أو تغامر بها، ولكن إسماعيل ضحى بها في سبيل مقاومة المطامع الاستعمارية، وهذه التضحية حقها من الإعجاب والتمجيد.
ومن يتأمل في هذه المأساة لا يسعه إلا أن يألم لمصير إسماعيل ، فقد كان جديراً بخير من هذا المصير، كما أن مصر قد تكون أسعد حظا لو بقي على عرشه ، فإنه في السنوات الأخيرة من حكمة أخذ يطرح الأغلاط القديمة، ويوجه مواهبه العالية إلى إنقاذ مصر من التدخل الأجنبي ، وكان له من ذكائه ومضاء عزيمته وتجاربه الماضية ما يكفل له التوفيق والسداد، ولكن المآرب الاستعمارية، والدسائس الإنجليزية والفرنسية، ألقت العقبات في طريقه، ومازالت تناهضه وتغالبه، حتى غلبته على أمره وأقصته عن عرشه.
وبذلك انسدل الستار على الفصل الأخير من حكم إسماعيل.وصل إسماعيل باشا إلي نابولي بإيطاليا حيث أعد له الملك امبرتو قصراً لسكناه ، فأقام به هو وزوجاته وانجاله وحاشيته ، واخذ يتنقل بين مختلف العواصم الأوربية ، ولم تفارقه آماله في العودة إلى عرش مصر ، وسعى إلى ذلك سعياً حثيثا ولكنه أخفق في مساعيه ثم سكن الاستانة منذ سنة 1888 ، وأقام بقصره إميرگان على البوسفور ، وظل مقيما فيه.
وفاته
إلي أن وافته منيته يوم 2 مارس سنة 1895 ، وله من العمر خمس وستون سنة ، فنقل جثمانه إلي مصر ، ودفن في مسجد الرفاعي بالقاهرة.
بحسب كتاب "أحمد عرابى" للكاتب محمود الخفيف، مستندًا للكاتب الكبير محمد حسين هيكل، فإن الخديوى توفيق باشا، فوجئ بالخبر وفزع له حتى لقد قابل موظف قصره، الذى أبلغه القرار، أسوأ مقابلة بل إنه صفعه، وذلك كونه شعر فى ذلك الحين بأن التركة التى آلت إليه أعباؤها هى تركة مخوفة، مشيرًا إلى أنه رغم محاولات السلطان العثمانى فى المناورة من أجل أعادة الأمور وفرض سيطرته عليها، إلا أن إنجلترا وفرنسا تدخلتا بحسم فى الأستانة، وأدى ذلك لتثبيت قرار السلطان بتولى توفيق "الضغيف المتردد الخائف من الجميع وغير المؤهل على الإطلاق للحكم" كما يصفه الكتاب، للاعتماد على إنجلترا وفرنسا وتلبية كل طالباتهم لضمان بقائه فى الحكم. فيما يذهب كتاب "انتفاضات أم ثورات فى تاريخ مصر الحديث" للكاتب محمد حافظ دياب، أن الوثائق التاريخية تذكر أن توفيق أجاب على فرمان السلطان العثمانى بتعيينه "خديوي"، بالقول: "لقد بدأت بظليل ظل الحضرة السنية الملوكانية بمباشرة أمور الخديوية، عالمًا علم اليقين أن سلامة الخديوية المصرية تحصل بالثبات على قدم العبودية والتابعية للسلطة السنية"، وكان ذلك إيذانًا بالتحول من محاولة الاستقلال إلى تكريس التبعية، لا للحضرة السنية الملوكانية فحسب، بل للقوى الأوروبية التى تواطأت على جده محمد على...!!