نواصل عرض أهم أحكام محكمة العدل الدولية من خلال أحدث دراسات القاضى الفقيه المصرى المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة المصرى المعروف بأبحاثه العلمية الوطنية بعنوان: "مسؤولية الأمم المتحدة وحقوق مصر التاريخية فى مياه نهر النيل والاستقرار القضائى لمحكمة العدل الدولية توثيق لعداون إثيوبيا على قواعد الأنهار.
دراسة تحليلية فى ضوء تدخل الأمم المتحدة فى النزاعات المائية النظيرة حماية للدول المتشاطئة من الإضرار بها، والمبادئ التى استنتها محكمة العدل الدولية فى وحدة المصالح للمجارى المائية لبيان عدوان إثيوبيا على مياه نهر النيل، وهو الموضوع الذى توليه مصر موضع الأهمية القصوى ويشغل بال المجتمع الدولى ويؤثر على استقرار المنطقة بأكملها، ونظرا لما تعرضه إثيوبيا من مغالطات للمجتمع الدولى وجب تنوير الرأى العام العربى والإفريقى والعالمى وفقا لقواعد العلم القانونى والانصاف والتاريخ، وأهمها السوابق القضائية لأحكام محكمة العدل الدولية، وهو ما يتناوله الفقيه فى الجزء العاشر قبل الأخير من الدراسة لمبادئ المحكمة الدولية تؤكد حقوق مصر التاريخية على نهر النيل وتدحض أى تصرف أحادى لإثيوبيا دون تفاوض أو اتفاق.
يقول القاضى المصرى الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة أن الواقع العملى الدولى كشف عن صورة مستجدة على فكر القانون الدولى يتمثل فى لجوء لجوء أمريكيين من مزارعين ومربى ماشية وملاك أراضى ومناطق الرى فى ولاية تكساس الأمريكية إلى التحكيم ضد المكسيك لإقامتها 7 سدود على روافد غراندى عام 2005 مما حدا بالمدعين اللجوء إلى المركز الدولى لتسوية نزاعات الاستثمار "ICSID" لتفعيل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA، فهل قبلت محكمة التحكيم دعاوى المواطنين الأمريكيين ضد المكسيك أم أنها انحسرت عن نظرها بركيزة عدم اختصاصها الولائى المنحصر فى دعاوى الدول دون الأفرد؟ وهل يفترق الوعى بين الشعبين الأمريكى والمصرى فى قضايا السدود، وعوامل الحضارة والتاريخ، ومدى تعلق وثقة كل منهما بقيادته؟
ويذكر الدكتور محمد خفاجى أن هذه واقعة فريدة كشف عنها الواقع العملى على مسرح الحياة الدولية المعروف بنزاع بايفييو Bayview case الولايات المتحدة ضد المكسيك، إذ قدم كثير من المزارعين ومربى الماشية وملاك الأراضى ومناطق الرى من ولاية تكساس إشعارا بالتحكيم ضد المكسيك أمام المركز الدولى لتسوية نزاعات الاستثمار ICSID" " فى عام 2005 على سند من أن المكسيك انتهكت معاهدة 1944 لقيامها ببناء وتشغيل 7 سدود على روافد ريو غراندى - وهى ولاية أمريكية وتشمل معظم جبال روكى الجنوبية وكذلك الجزء الشمالى الشرقى من هضبة كولورادو والحافة الغربية من السهول الكبرى - إلى خليج المكسيك، وعلى امتداد مساره يشكل النهر جزءًا من الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة ، بالإضافة إلى جمع وتحويل المياه لاستخدامها من قبل مواطنيها، وبالتالى زيادة العجز فى التدفق للمدعين، كما ذكروا أيضا أن المكسيك انتهكت المواد 1102 و1105 و1110 من اتفاق أمريكا الشمالية للتجارة الحرة بنزع ومصادرة كمية من المياه بصورة غير مشروعة.
واختتم المدعون طلباتهم للتحكيم أن المكسيك فشلت فى سداد الدين المائى، وأن تصرف المكسيك حرمهم من حقوقهم فى المياه بموجب معاهدة 1944 المبرمة بين المكسيك والولايات المتحدة، والتى تسببت فى تلف المحاصيل وفقدانهم وظائفهم الحرفية
ويشير الدكتور محمد خفاجى أنه فينا يتعلق الأساس القانونى لطلبات المدعين الأمريكيين بموجب قانون الولايات المتحدة، وأن دول الاتحاد ذات السيادة وليس الحكومة الفيدرالية هى التى لها الحق القانونى فى المياه، مع سلطة تقسيم استخدامها بين سكانها، وأن محكمة الولايات المتحدة فى عام 1969 قضية هيدالجو "أخذت الوصاية القضائية على المياه الأمريكية فى ريو غراندى" و"أتاحت كميات كبيرة من المياه لسكان تكساس -بمن فى ذلك المدعين، على الرغم من أن معاهدة 1944 نفسها لم تقسم هذه الحقوق.
أما فيما يتعلق بمسألة المياه كسلعة فى التجارة ، جادل المطالبون الأمريكيون بأن نهر "ريو غراندى "لم يعد منذ فترة طويلة نهرًا يتدفق بشكل طبيعى، ولاحظوا أن المياه من نهر ريو غراندى يتم شراؤها وبيعها وتداولها وتخزينها للاستخدام فى التجارة الزراعية لأنشطة المزارعين على جانبى النهر، ونفى المدعون أنهم كانوا يطلبون من المحكمة أن تحكم فى حقوق والتزامات المكسيك والولايات المتحدة بموجب معاهدة عام 1944، وقالوا إن دعواهم تستند إلى انتهاكات مزعومة لاتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية " NAFTA".
وقد ارتأت المحكمة أن الفصل الحادى عشر من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية لم يكن القصد منه توفير حماية موضوعية أو حقوق عمل للمستثمرين الذين تقتصر استثماراتهم بالكامل على دولهم الوطنية، فى الظروف التى قد تتأثر فيها تلك الاستثمارات بالتدابير المتخذة من قبل دولة طرف أخرى فى نافتا، وأنه لا ينبغى تفسير اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية لتحقيق هذه النتيجة غير المقصودة.
وفى سياق هذه القضية، لا يكفى أن يكون أصحاب المطالبات من الولايات المتحدة قد استثمروا فى الولايات المتحدة بل يجب أن يثبتوا أنهم كانوا يسعون إلى القيام باستثمار فى المكسيك أو كانوا يقومون به أو قاموا به، وإذا لم يتمكنوا من إثبات ذلك ، فلن يكونوا مؤهلين "كمستثمرين" لأغراض هذه المطالبات.
ويذكر أن المحكمة سجلت أنه على الرغم من أن المدعين الأمريكيين تمتعوا بحجج ذات قدر كبير من الدقة والبراعة، على سند من القول إنه فى معاهدة 1944 عزلت المكسيك أو تخلت عن ملكية ثلث المياه فى "الأنهار الستة فإن ما يقرب من ثلث المياه فى "الأنهار الستة" تعود إلى المكسيك، وحوالى ثلثيها ينتمى إلى الولايات المتحدة - وصيغة المشاركة بموجب تطبيق المادة 4 من معاهدة 1944 مجموعة من المبالغ الثابتة والنسبة المئوية للأسهم المقاسة على مدى فترات عدة سنوات، وقد واجهت المحكمة ذلك بأنها لا تجد أى دليل فى معاهدة عام 1944 يشير إلى أن هذا التفسير الخيالى للمعاهد.
فالقراءة العادية للمعاهدة تبين أنها اتفاقية لتوزيع مثل هذه المياه التى تصل إلى المجرى المائى الدولى - ريو برافو / ريو غراندى - بين المكسيك والولايات المتحدة، والمحكمة لا ترى أى سبب مهما كان للشك فى صحة تلك القراءة.
ويوضح الدكتور محمد خفاجى عن مدى أحقية المواطنين فى النزاع النهرى الذى هو محجوز للدول فقط حسمت المحكمة هذه النقطة بقولها أن أى تحويل غير صحيح لتدفقات النهر غير التدفق الرئيسى لريو برافو / ريو غراندى إذا حدث مثل هذا التحويل، فقد يرقى أو لا يرقى إلى مستوى انتهاك معاهدة 1944.
وسيكون ذلك من اختصاص الدولتين ، وهما الطرفان الوحيدان فى تلك المعاهدة.
وإذا كان يُعتقد أن مصالح المواطنين الأمريكيين قد تضررت من جراء أى إجراء يُزعم أنه يرقى إلى مستوى انتهاك المعاهدة، فهذه قضية يمكن أن تتناولها حكومة الولايات المتحدة بموجب إجراءات تسوية المنازعات فى معاهدة 1944.
وارتأت المحكمة أنه لم يثبت أن أيًا من المطالبين يسعى إلى الاستثمار فى المكسيك أو يقوم باستثماره أو أنه قام بذلك.
ولما كان الأمر كذلك، فإن المحكمة ليس لديها اختصاص للنظر فى أى من هذه الادعاءات ضد المكسيك لأن المدعين لم يثبتوا أن مطالباتهم تقع ضمن نطاق وتغطية الفصل الحادى عشر من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، على النحو المحدد فى المادة 1101 من اتفاق نافتا، ومن ثم فليس من الضرورى النظر فى المزيد من القضايا، لأنه من الواضح أن المحكمة لا يمكن أن يكون لها اختصاص على هذه المطالبات، وقد وجدت المحكمة أنها تفتقر إلى الولاية القضائية على جميع المطالبات، وانتهت هيئة التحكيم إلى أنه ليس لها اختصاص على النزاع المقدم إليها فى هذا التحكيم.
ويؤكد الدكتور محمد خفاجى أنه جديد على فكر القانون الدولى قيام مواطنى دولة بمقاضاة دولة أخرى بركيزة من معاهدة أبرمتها حكومتهم مع هذه الدولة، خصوصا وهى تثير مسألة أولية عن مدى الاختصاص الولائى للجنة"ICSID" فى نظر مثل تلك النزاعات من مواطنى دولة ضد دولة أخرى، علما بأن اتفاقية تأسيس المركز الدولى لتسوية منازعات الاستثمار، هى اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطنى الدول الأخرى التى دخلت حيز النفاذ فى عام .
وقد أصدرالمركز الدولى لتسوية المنازعات حكمه بأنه غير مختص للنظر فى الدعاوى التى أقامها هؤلاء المواطنين الأمريكيين وفقا للفصل الحادى عشر من اتفاق نافتا، وتأسيسا على أنه لم يكن أى من أصحاب المطالبات الأمريكيين يسعون إلى الاستثمار فى المكسيك.
لكن ربما يشهد المستقبل رؤى مستجدة عن منازعات المياه يدلى فيها مستقبلا المركز الدولى لتسوية منازعات الاستثمار أفكارا لا تخضع للقوالب التقليدية عن الحق فى المياه مع تطور الحياة الدولية وتعظيم دور القطاع الخاص فى مختلف الدول.
ويختتم الدكتور محمد خفاجى أن قضية سد النهضة من أكبر المخاطر التى تواجه مصر وهو ما يتوجب على المصريين الاتحاد لمواجهة الأزمة من خلال مساندة ودعم الدولة فى قراراتها الخاصة بهذا الشأن والانتباه للمحرضين الساعين للإيقاع بالوطن، وأن وعى الشعب المصرى يفوق وعى الشعب الأمريكى فى هذا الخصوص بسبب أن الحضارة المصرية ممتدة منذ اَلاف السنين والتاريخ يعلم الإنسان دروسا ومن ثم يجعله أكثر وعيا وقدرة على إتخاذ القرار الصحيح.
كما أن وعى الشعب المصرى ينبع من ثقته فى قيادته وقدرتها على مواجهة المخاطر التى تواجه الأمة المصرية وهو ما عبر عنه الرئيس عبدالفتاح السيسى بقوله: "أن الشعب المصرى شعب واع جدا وعظيم -- وأنَّ وعى الشعب المصرى هو السلاح الذى سيحارب كل الأفكار والجهود المبذولة من أجل تدمير الدولة المصرية.
"لذا يمكن القول بأن الشعب المصرى فوض الرئيس عبد الفتاح السيسى تفويضا ضمنيا فى إدارة ملف سد النهضة لثقتهم التامة والمطلقة فى قدرة الرئيس السيسى على اتخاذ كل الخطوات التى تكفل الحفاظ على حقوق مصر التاريخية فى مياه نهر النيل.
وتلمح هذا التفويض الضمنى من خلال تأييد الشعب لتصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسى التى تناولها خلال افتتاحه مجمع إصدار الوثائق المؤمنة والذكية، بالعاصمة الإدارية الجديدة وحديثه عن قلق المصريين على ملف المياه مؤكدا للعالم عدالة القضية فى إطار القانون الدولى، والأعراف الدولية ذات الصلة بحركة المياه عبر الأنهار الدولية.
وسنعرض للجزء الحادى عاشر والأخير من دراسة القاضى الفقيه المصرى المتميزة عن تحليله لأهم أحكام محكمة العدل الدولية وما قررته من المبادئ المؤيدة للموقف المصرى والداعمة لحقوق مصر التاريخية على مياه نهر النيل بما لا ينتقص من حصصها أو يسمح لإثيوبيا بالتصرفات الأحادية دون اتفاق أوتفويض مع الدول المتشاطئة.