الأقباط متحدون - التَّعَصُّبُ
أخر تحديث ١٩:٣٦ | الثلاثاء ١٤ اغسطس ٢٠١٢ | ٨ مسرى ١٧٢٨ ش | العدد ٢٨٥٢ السنة السابعة
إغلاق تصغير

التَّعَصُّبُ

بقلم: القمص أثناسيوس فهمي جورج

التعصب أساسه وسببه يكمن في الآراء المسبقة المشوَّهة عن الآخر المختلف دينيًا... فالجهل دائمًا يقود إلى التعصب، والمقصود هنا هو الجهل بالآخر وعدم الإلمام الصحيح بكينونته، وقد سُمي التعصب بالمَقيت؛ لأنه يدفع إلى إلغاء العقل؛ وخوض جدالات وتصورات ينعدم فيها الاحترام؛ ويجعل التربة خصبة للإتهام والتعدي والخوض في أمور لا يفقه فيها المتعامل ألفها من يائها... وانتشار طريقة التجهيل بالآخر المختلف والتحريض عليه؛ هو الذي كرس الازدراء والافتراء وانتقل به من التفكير إلى التكفير، ومن التعايش وقبول الآخر كما هو يدرك نفسه؛ لا بناء على تصورات مغرضة ووهمية مسبقة؛ إلى النفور والتباعد... وجميعها قد صعبت المعاملات والجوار، وفتحت الأبواب على مصراعيها للاعتداءات والمشاحنات التي أودت بحياة البشر وبمقدَّراتهم.
 
لقد جعل التعصب الجو خانقًا وهشًا متوترًا وسريع الاشتعال... قسّم الناس وفرض العُزلة الاجتماعية، وصنف البشر، وتسبب في رفض الإنسان الآخر بحجج دينية تفشّت على نطاق واسع، وللأسف الظروف السيئة تنتج تشريعات سيئة، غير أن الظروف السيئة مرحلية ومؤقتة؛ أما التشريعات فهي مستمرة ودائمة... لكن إدارة الظهر للمواطنة ولتحقيق العدالة والتعايش يسيء إلى الدين نفسه ويؤخر الوطن كله؛ ويجعله مرتعًا للتعصب... لأن الحاضر يصنع المستقبل؛ وما عرف وطن مستقبلاً من دون المواطنين جميعًا؛ ومن دون وحدتهم في المساهمة لبناء هذا الوطن الذي يجمعهم على أرضه.
 
علاج التعصب لا يكون مؤقتًا مثل مخدر أشبه ما يكون بحبة الأسبرين؛ لكنه إعادة صياغة تطال التعليم والإعلام والقوانين ودور العبادة والمؤسسات كلها.... هذا العلاج المخلص هو الذي يحفظ صيغ المواطنة حتى لا تنقلب طريقة التعايش رأسًا على عقب... وقد أوصى السيد المسيح كل مسيحي أن يحب الكل كقريبه؛ وصولاً إلى محبة الأعداء واللاعنين والمبغضين... وأي تعصب يأتي على المسيحي بسبب إيمانه فهو لأجل امتحانه... لذلك لا يستغربه إذن وكأن أمرًا غريبًا قد أصابه (۱ بط ۱۲:٤)... وكل من يُعيَّر بسبب اسم المسيح فالطوبى له وروح المجد والله يحل عليه... وداعة المسيحي تعني المسالمة ولا تعني الخنوع؛ كما أن شجاعته تعني مطالبته بحقه وإلتزامه بواجباته؛ لكنها لا تعني التطاول والتخريب... المسيحي الحقيقي على قدر طاقته يسالم جميع الناس؛ ويسلك بالسلام والمحبة والعطاء بأمانة كما سلك السيد المسيح وأوصى "على الأرض السلام" (لو ۱٤:۲).
 
عكس التعصب (الغيريَّة) التي هي قبول الآخر؛ وهي ثمرة تلاقح الأفكار والمعاملات؛ وهي أيضًا ثمرة جدلية التعددية بين كل البشر الذين خلقهم الله على صورته ومثاله من كل لون وعِرق ودين وقومية... فالغيرية عكس الميكافيلية التي فيها الغاية تبرر الوسيلة... لأن الإله الحق لا يُعبد بالقهر؛ وهو لا يحتاج أن ينصره البشر؛ بل هو الذي ينصرهم ويعينهم... إنه إله الرحمة والعدل الذي لا يرضى بالظلم والقهر وكل صور الإكراه والترهيب... وعلى أساس كلمة الله تأسست الحقوق الإنسانية بدساتيرها وأدبياتها؛ وصارت سبب تقدم الأمم وأثمرت إبداعات إنسانية وتطورات الحضارات؛ والتي نتمنى لبلادنا أن تكون من بينها؛ بل وفي مقدمتها.
 
إن كل المتعصبين على سطح الكرة الأرضية هم ليسوا أصحاب تكوين معرفي متوازن؛ وهم لم يتعرفوا بعد على حقيقة طبيعة الله وكلمته ووصاياه؛ إذ لا يمكن أن يرضى الله بالتعصب المقيت الذي يتسبب في هدر دماء الذين جبلهم؛ ولا يمكن أن يرضى بالحرق والسلب أو بقمع الذين خلقهم ليكونوا أحرارًا... وهو لا يرضى بالعصبيات التي تعصف بجمال خلقته مهما كانت دوافعها ومسمياتها.
 
حوادث كثيرة تأتي في سلسلة بداياتها شرارة معروفة؛ لكن نهاياتها متحولة مجهولة بسبب التعصب ضد الآخر؛ إلى حد اشتهاء إلغائه وإبادته وحرقه، بعد نزع ملكيته وإنسانيته؛ فمن كثرة الاعتياد صار التعصب إدمانًا عند البعض، وتأسيسًا على ذلك كله يمكن القول بأن هذه الأحداث المتكررة هي في سياق واحد تعبر عن غياب التسامح والصدق والمواطنة والتنوير... من له أذنان للسمع فليسمع!!!

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter