د. جهاد عودة
إنّ تاريخ النزاع حول هذه المنطقة قديم جداً، منذ خمسينات القرن العشرين، لكنه ظل في حدوده المعقولة بين مزارعين إثيوپپين و السودانيين في الجهة المقابلة، إلى أن انقلب الإخوان المسلمين على السلطة، وقرروا عام 1995 اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا، وباءت محاولتهم بالفشل، حينها شعر الراحل مليس زيناوي بطعنة في الظهر، حيثُ كانت علاقاته جيدة بحكومة الاخوان ، فتوغل الجيش الإثيوپي داخل الأراضي السودانية إلى عمقها، ثم انسحب لاحقاً – وبقى في أجزاء من أراضي الفشقتين الصغرى والكبرى (وليس كلهما) بشكل شبة دائم منذ 1998 وحتى الآن. ما قيل في هذا الخصوص، هو أن حكومة إثيوپيا (الرسمية) تعترف قانونياً باتفاقية الحدود لعام 1902، أي اتفاقية (هارنجتون - مينليك) وكذلك تعترف ببروتوكول الحدود لسنة 1903، واتفاقية عام 1972 مع حكومة السودان المستقلة بأن منطقة الفشقة أرضاً سودانية. لكن على أرض الواقع يبدو الأمر ليس كذلك، فلا تزال أجزاء من الفشقتين تحت سيادة إثيوپية فعليِّة، وسيادة سودانية (معترف بها من إثيوپيا) لكنها معلقة. يعتقد الشعب الأمهري الإثيوپي، اعتقاداً راسخاً وجازماً، إن هذه أراضيه وأراضي أجداده . وهذا الأمر مستمر منذ الخمسينات – يأتي مزارعون أمهرا بدعم من عصابات – (ولگاييت) التي تسمى بالأمهرية شفتا، ويزرعون الأراضي السودانية.
وهنا لابُدّ من فرز دقيق للمصطلحات، فهؤلاء المسلحون (الشفتا) ليسوا مليشيات، بل عصابات معروفة من أمد طويل، وينشط فيها ويترأسها وينظمها أفراد من شعب ولگاييت، وليسوا الأمهرا، فهؤلاء يستعينون بهم من أجل الحماية نظير مبلغ مالي. وبالمناسبة ولگاييت هؤلاء، هم طيف عرقي (مظلة شعوب) بينهم من أصوله سودانية، وقد كانت لديهم مشيخة في رأس الفيل منذ الدولة السنارية، وهؤلاء هم عماد وعصب الشفتا، وهم أيضاً مثل الأمهرا يقولون إن أراضيهم التاريخية تمتد ليس فقط إلى الفشقة أو القضارف، بل حتى أبي حراز شرق مدني فى السودان . لذلك، فإن الأمهرا وولگاييت (المسلحون – الشفتا) هم الذين يشعلون هذه المنطقة منذ عقود طويلة. فشلت الحكومات الإثيوپية المُتعاقبة في اقناعهم بحدود لا يقوم على (التاريخانية) وإنما على اساس قانوني ينبني على الحدود الاستعمارية. تعرضت الأراضي الزراعية السودانية لاعتداءات متكررة من قبل مليشيات الشفتة الإثيوپية، بغرض النهب والسلب، والأطماع الزراعية، واحتسبت القضارف منذ بدء الموسم الزراعي في يوليو 2015 مواطنا، قتلوا برصاصة الجماعات الأثيوبية المسلحة في القرى والمناطق الحدودية، وتم فقد (4) مواطنين، ويبلغ طول “الحدود الدولية” في ولاية القضارف المشتركة بين الجانبين السوداني والأثيوبي نحو (265) كلم، ويقدر حجم الأراضي الزراعية المعتدى عليها من قبل الإثيوپيين بنحو مليون فدان بما يعرف بأراضي الفشة وتمتد من (سيتيت، وباسلام) شرقا حتى منطقة القلابات جنوبي القضارف، وتضم الفشقة “أخصب” الأراضي الزراعية في السودان، وتقسم لثلاث مناطق- “الفشقة الكبرى” وتمتد من (سيتيت حتى باسلام)، و”الفشقة الصغرى” وتمتد من (باسلام حتى قلابات)، و”المنطقة الجنوبية” وتشمل مدن (القلابات، وتايا حتى جبل دقلاش)، وتشهد سنويا أراضي الفشقة أحداثا دامية .
يقول مدير إدارة الحدود في ولاية القضارف صلاح الخبير في ورقة علمية عن الحدود الأثيوبية: إن دخول المزارعين الأثيوبيين في الأراضي السودانية قد بدأ في العام (1957-1964) وقد كان عددهم (7) مزارعين أثيوبيين يزرعون مساحة (3) آلاف فدان في منطقة الفشقة الكبرى بجبل اللكدي، وفي العام (1964-1967) بلغ عددهم (27) مزارعا بمساحة (33) ألف فدان، في الفترة من (1972- 1991) بلغ العدد (52) مزارعا في مساحة (84.500) فدان. وفي العام (2004) حسب إحصائية رسمية للجنة مشتركة من الجانبين بلغ عدد المزارعين الأثيوبيين في الأراضي السودانية (1956) مزارعا أثيوبيا يستغلون مساحة (754) ألف فدان، ويقدر حجم المساحات المعتدى عليها الآن من قبل الأثيوبيين مليون فدان.
إن الهدف الرئيس لنشاط تلك الجماعات الأثيوبية المسلحة هو طرد المزارعين
السودانيين، للاستيلاء على أراضيهم واستغلالها بزراعتها، وقد تجاوز الأثيوبيون تلك المساحات المتفق عليها، بل إن السلطات الأثيوبية تشير إلى أنها قد أبلغتهم بعدم الزراعة في تلك الأراضي السودانية، وتصف الحكومة الأثيوبية تلك المجموعات بأنها جماعات “متفلتة” أو “خارجة” عن القانون، ويرى مراقبون إنه أيا كانت التسمية أو التوصيف لتلك الجماعات الأثيوبية فإن الشاهد إنها قد تعتدي وتستولي بصورة دورية على أراضي المزارعين
السودانيين. جاء قيتاشو مامو إلى الفشقة الكبرى التي تحاذي منطقة التگراي بحوالي أكثر بقليل من 100 كم، وهو في مقتبل الشباب للعمل للاشراف على مشاريع عمه قزاتو ملس ردا والذي كان يمتلك عدة مشاريع زراعية شاسعة بالفشقة الكبرى وأسطول كامل من الجرارات والآليات الزراعية، وسرعان ما أثبت قيتاتشو جدارته وكفائته في ادارة أعمال عمه، الذى منحه جزءاً من الأرض ليزرعها ، ومنها انطلق قيتاتشو مامو وبعد سنوات قليلة صار أحد كبار المزارعين ورجال الأعمال الناجحين فأنشأ عدة شركات وأعمال تجارية ناجحة. عام 2000 عندما أجرى والي القضارف الراحل الشريف بدر تخطيط الحدود وتأجيره مناطق واسعة فى الفشقتين للإثيوپيون، كان قيتاتشو وقتها لديه مشروع زراعي واحد قد استولى عليه بالقوة المسلحة يعود لمزارع سوداني من الدرابي بالقضارف، فانتهز الفرصة واستولى على عدة كيلومترات من الأراضي السودانية واستغلها لمصلحته. وحقق بذلك ثروة طائلة من زراعة السمسم والذرة والقطن وبذرة عباد الشمس وقطعان الماشية، وانطلق تجارياً وبرز اسمه كأحد أبرز رجال الأعمال. تبدو قصته مثلها مثل مئات المزارعين الإثيوپيين، لكن خطورته ظهرت فيما بعد لأنه ضابط برتبة رائد فى الجيش الإثيوپي الفدرالي، وهو من الوالگاييت، وهم الذين استعادوا مناطقهم، وهي مدن غرب التگراي، وصارت إدارياً تتبع الأمهرة، بعد أن انتزعها ملس زيناوي منهم لتكون للتگراي حدود مع السودان. وقام قيتاتشو بدور كبير ورئيسي، في تقدم ودخول الجيش الفدرالي مدن غرب التقراي لمعرفته الوثيقة بها لأنه من نفس المنطقة.
بعد تقدم الجيش السوداني وانتشاره في الفشقة، فقد قيتاتشو عدة مشاريع زراعية ضخمة فى طور الحصاد استعادها السودان في اطار حملته لاستعادة الأراضي السودانية في الفشقة وطرد المسلحين منها. وانطلق حقده وكراهيته على السودان والسودانيين، فبدأ يشن هجمات عبر الميليشيات، على الأراضي السودانية والمزارعين محاولاً إيقاف عمليات الحصاد، والاختطاف والاستيلاء على آليات المزارعين، لكن كانت القوات المسلحة له بالمرصاد وأفشلت كل محاولاته إلى أن توقف، خاصة بعد استيلاء القوات المسلحة على أحد المعسكرات الإثيوپية قرب برخت حيث دارت معركة كبيرة، انتصرت فيها القوات المسلحة.
ميدانياً تقود ميليشيات فانو العمل العسكري، وهم شباب الأمهرة ومدربين على استعمال السلاح، وهناك أيضاً القوات الخاصة وهى لا تتبع للجيش الفدرالي وإنما قوات شرطة المنطقة، بالإضافة لعصابات الشفتة وكل هذه القوات تجد الدعم والمساندة من الجيش الفدرالي والقوات الإرترية. اسم فانو والقوات الخاصة ضباط سابقين من الجيش الفيدرالي من الأمهرة والوالگاييت والأرماتشو وبعض الكيمانت. زعيم فانو هو سولمون أتانوا، وهو من يقود وينظم وينسق الهجمات فى الفشقتين ضد الجيش السوداني والمزارعين. وأيضاً في بعض المناطق الأخرى مثل بني شنقول وبعض مناطق أروميا. تسلسل القيادة يمتد إلى حاكم منطقة الأمهرة، وأسوأ الانتهاكات بالفشقة حدثت في عهد تمسقن طراونه الحاكم السابق لمنطقة الأمهرة، الذى يشغل حالياً مدير جهاز الأمن والمخابرات الفدرالي وبعد أحد أبرز معاوني أبي أحمد وصديقه وقدو أندرا قاتشو وهو أيضاً حاكم سابق للأمهرة ثم صار وزيراً للخارجية بعد ورقنه جبيو الذي تولى سكرتارية الإيجاد، وحالياً قدو أندرا قاتشو مستشاراً للشؤون الأمنية لرئيس الوزراء أبي أحمد. ثم الحاكم الحالي لمنطقة الأمهرة انو اثنجنهو تيشاغر، وقائد كل هذه المجموعات الأمهرية ديمكي موكنن حسن صاحب الكلمة العليا في الأمهرة، نائب رئيس الوزراء، الوزير المكلف بادارة وزارة الخارجية حالياً، وفى نفس الوقت هو رئيس حزب الأمهرة الديمقراطي. تعمل كل هذه المجموعات معاً للسيطرة على الفشقتين بكل الوسائل العسكرية والأمنية والسياسية، ويحصلون سنوياً في جيوبهم على ما لا يقل عن 700 مليون يورو سنوياً كعائدات شخصية لهم نظير دعمهم للمزارعين الإثيوپيين في الفشقتين، ووكانوا يخططون لتوطين 3 مليون من الأمهرة بها عبر إنشاء 500 قرية نموذجية بها كل الخدمات الأساسية، وأيضاً خططوا بشراكة صينية لإنشاء محالج ومصانع للغزل والنسيج ومصانع زيوت ومسالخ ماشية ومشاريع لتربية المواشي.
هناك أيضاً مجموعة سياسية أمهرية في المعارضة تُعرف باسم الحركة الوطنية في أمهرة، وهي مجموعة متشددة ومتتطرفة تدعو لسمو وسيادة الأمهرة على كل جميع العرقيات الإثيوپية وهذه الأيام يقومون بحراك كبير يدعو إلى الحرب ضد السودان واستعادة الفشقتين والتى يطلق عليها الأمهرة (دليل) كعادتهم تسمية المناطق التى يستولون عليها بأسماء أمهرية. في 4 ديسمبر 2020 دخلت قوات سودانية مناطق قبالة منطقة تگراي تسيطر عليها مليشيا الشفتا الإثيوپية، وأعادت السيطرة على مناطق زراعية متاخمة لإثيوپيا لأول مرة منذ 25 عاماً. وسيطر الجيش السوداني على معسكر خور يابس داخل الفشقة الصغرى قبالة بركة نورين، بعد 25 سنة من الغياب. يُذكر أن نزاعاً حدودياً كان نشب بين إثيوپيا والسودان على الحدود الشرقية للأخيرة، وتحديداً في منطقة الفشقة التابعة لولاية القضارف السودانية المحاذية لمنطقة أمهرة الإثيوپية.
في أوائل يوليو 2015 قامت مليشيا أثيوبية مسلحة باعتداء غاشم على تجمعات الدفاع الشعبي بالشريط الحدودي، وتوغلت داخل عمق الأراضي السوانية، وتمكنت قوات الدفاع الشعبي من التصدي لها بعد احتسابها لثلاثة شهداء هم (موسى عيسى أحمد)، (عثمان أحمد آدم)، (إسحق أبو محمد)، كما سقط المواطن عبد الله أحمد عثمان شهيدا برصاص قناصة المليشيا في منطقة “مربطة” بمحلية) القريشة) حيث أعرب مواطنو تلك المنطقة في تصريحات صحفية عن قلقهم من تنامي وتصاعد تلك الاعتداءات، في صبيحة يوم عيد الفطر المبارك- أي في ذات الشهر (يوليو) حاولت عصابات الشفتة الأثيوبية نصب كمين لرعاة سودانيين، في منطقة وسط قريتي (الجكة ومديرية) غرب نهر العطبراوي محلية القريشة ولاية القضارف، فصدتها قوات الدفاع الشعبي، واحتسبت الشهيد (عمر باشا) فيما قتل (ثمانية) من مسلحي عصابة الشفتة الأثيوبية في الاشتباكات التي دارت بينهما، بعد أيام قليلة من تلك الحادثة اقتحمت مليشيا أثيوبية مسلحة مشاريع زراعية لمزراعين سودانيين في محلية القلابات منطقة عطرب الواقعة في الطريق القاري (القضارف_ القلابات)، وأبلغ المزارع جابر عبد القادر عبد المحسن أن مجموعة أثيوبية مسلحة قد اقتحمت مشروعه الزراعي في منطقة عطرب على بعد (8) كلم من الطريق القاري، فاستولوا على المواد البترولية، والتموينية، وغذاءات تخص العاملين في الكمبو الزراعي، والإسبيرات، وقطع الغيار الموجودة في المشروع، وأضرموا النيران في خزان الوقود، وأحرقوا المعسكر، كما فعلوا ذات الشيء في مشروع جاريه “حاج إسحق”، ومشروع “أبكورة”. في (يوليو) 2015 - أيضا- مع بدء موسم الخريف شنت مليشيات أثيوبية هجمات على قرى (خور شطة)، (أب سعيفة)، (خور سعد)، (شنقال)، ونهبت ممتلكاتهم ومدخراتهم، فاضطر المواطنون إلى هجر قراهم والزحف نحو منطقة “عطرب”، الواقعة على الطريق القومي (القضارف_ القلابات)، بعد أن وجدوا أنفسهم في مواجهة جهات مسلحة، لا قبل لهم بها، تتمتع بدرجة عالية من العتاد والمعدات القتالية، والإمداد، ويرجح المزارع عبد المحسن أن تكون تلك المجموعات منتشرة ومتنقلة بين الجبال في المنطقة الجنوبية بالقلابات، ومن ثم تشن هجماتها على المواطنين والمزارعين، بعد تلك الأحداث عاد مواطنو تلك المناطق إلى قراهم ومارسوا حياتهم بشكل طبيعي، وغادرت الملشيات الأثيوبية المنطقة، لتعود صبيحة أمس الأول (الثلاثاء) وتهاجم منطقة بني شنقال، واحتسبت القضارف الشهيد “محمد علي” في المعركة متأثرا برصاص المليشيا الأثيوبية.