كتب – روماني صبري
وجه المطران كريكور اوغسطينوس كوسا أسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك، رسالة رعوية جديدة لشعب الكنيسة، جاء فيها ما يلي :
لا من أحدِ يعرف الآب إلاَّ الابن، ومن شاء الابن أن يكشفه له"(متى ١١: ٢٧، "إن الله ما رآه أحدٌ قط، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه"(يوحنا ١ : ١٨). وما كشفه لنا كافِ لنحيا السرّ، ويحلّ في "قلوبنا بالإيمان"(أفسس ٣ : ١٧)، "نحن نؤمن ولذلك نتكلّم"( قورنتس الثانية ٤ : ١٣)، نتكلّم على الإيمان. والرّوح يكلّمنا من خلال مطالعتنا الكتاب المقدّس، حتى نزداد إيماناً، ومع الرسل نقول للرّب: "زدنا إيماناً"(لوقا ١٧ :٥ ).
الإيمان هو "قوام الأمور التي تُرجى وبرهان الحقائق التي لا تُرى" (عبرانيين ١١ : ١).
يُخبر المفكّر الفرنسي جان جيتون Jean Guiton أن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران قصده يوماً ليطرح عليه موضوع الإيمان، وألحَّ عليه أن يكون الجواب موجزاً لأن الوقت قصير. أجابه المفكّر الفيلسوف: كانت أمي تقول لي، وأنا في سن المراهقة: "يا بنيَّ على الإنسان أن يكون ذكيّاً لكي يؤمن". فلم أفهم كلامها كل الفهم، إلاَّ لما دخلت الجامعة وتبيّن لي أن الإنسان مشدود بين قطبين:
إمّا العبث l’Absurde أي الامعني ، وإمّا السرّ le Mystère الذي فيه معنى ندركه ولانراه، إنمّا نختبر منه ما كشف لنا.
فالإنسان الذكي هو الذي يفضّل المعنى على اللامعنى. ولهذا يؤمن.
الإنسان الذكي هو الذي يعرف ما يختار. فأنتم يا أحبّائي أذكياء، تسعون إلى السرّ العميق مُلبّين دعوة الذي هو في السرّ.
لماذا تستغربون عندما نستعمل كلمة سرّ في الحديث عن الله، ولا تستغربونها في الحديث عن الإنسان ؟
أليس في الإنسان سرّ عميق؟ فأنتم لا تكتشفـون ما في فكره وقلبه إلاَّ بعد ما يكشفـه هـو لكم. كذلك الله: "إن الله ما رآه أحد قط، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه" (يوحنا ١: ١٨).
نتكلّم عن الإيمان، والرّوح القدس يكلّمنا حتى نزداد إيماناً ونتعمّق به ونتكلّم ونعظْ ونُعلِّم.
الإيمــان معنى لحياتنــا
ما يميّز الإنسان المسيحي هو إيمانه. الإيمان بالمسيح ابن الله وابن الإنسان، المسيح المخلّص المصلوب والقائم من الموت، المسيح الحيّ في كنيسته من أجل إحلال ملكوت الله بين البشر بالمحبّة. ولكن ما هو هذا الإيمان المسيحي؟
يقول بعضنا: "أنا أؤمن"، وبعضنا: "أنا فقدت إيماني"، أو: "أنا اكتشفت إيماني"، وآخر يقول: "إيماني ضعيف"... وكثيرون يتكلّمون عن إيمان حيّ، وعن إنسان يحيا إيمانه. جميع هذه الطرق في الحديث عن الإيمان دلالة على أنه جوهري في حياة الإنسان.
فالإيمان في حقيقته إلتزام يشمل عقل الإنسان وقلبه أي نواياه وإرادته. الإيمان موقف تجاه الواقع والحقيقة. الإيمان إذاً، معنى للحياة عامةً ولحياتنا خاصة. فالإنسان لا يعيش فقط من خبز عمله التقني بل من الكلمة، والحبّ، والمعنى. إلى هذا يستند وجودنا وكياننا.
نحن نقبل من الرّب بواسطة الكنيسة الإيمان لآنه أُعطي لنا حقاً. إنِّي أؤمن كمسيحي يعني أنا أستسلم للمعنى الذي يحملني والذي يحمل العالم أيضاً. أن أنظر إليه كما إلى صخرة صلبة عليها أرتكز دون خوف لأنه صخرة إيماني ورجائي.
أُؤمن كمسيحي، هذا يعني أن أجعل من وجودي، من حياتي، من كياني جواباً للكلمة المتجسّد يسوع المسيح، كلمة الله التي هي أساس ومرتكز كل شيء.
أُؤمن كمسيحي، هذا يعني أن أقرّ بأن عطية الله ومواهبه تسبق عملي. فلأن قبلنا عطيه الله ومواهبه يمكننا أن نعمل... فالإيمان المسيحي يعطي أهمية أكبر لحقيقة اللامنظور على ما هو منظور.
أن كلمة "آمين" هي صدى لكلمة "أُؤمن".
آمين يعني: "ليكن".
آمين يعني: "إنِّي أثق"، "إنِّي أتّكِل وأضع رجائي".
آمين يعني: "نعم، حقيقة، هذا حقّ، هذا صحيح".
آمين يعني: "أمانة، صلابه، أساساً متيناً".
آمين يعني: "أن أكون واقفاً منتصباً لا ملتوياً، أي أن أكون حياً ونشيطاً وجاهزاً لعمل كل ما يطلبه منّي الرّب".
ان ميزة الإيمان، وصفته، وطابعه الأكثر عمقاً هو انفتاح على كائن شخصي. فصيغة الإيمان الأساسية لاتقول: "إنِّي أُؤمن بشيء ما"، إنما تقول وتؤكد: "إني أُؤمن بك...".
الإيمــان لقــاء مع يســوع
الإيمان هو لقاء مع شخص، وهذا الشخص هو يسوع، وبهذا اللقاء يكتشف الإيمان أن معنى العالم هو إنسان . وهذا الإنسان هو شاهد لله، شاهد للحقيقة وبه يصبح غير المحسوس محسوساً، وغير الملموس ملموساً، والبعيد اللامتناهي يصبح قريباً للغاية. هذا الشخص هو حضور الأزلي ذاته في قلب العالم، به يتجلّى معنى الحياة ويصبح هذا المعنى حضوراً، أي حضور الله في العالم وفي الإنسان.
الإيمــان حــوار مع الله ومع البشــر
الإيمان يولد من الكرازة، من السماع: "فإذا شهدت بفمك أن يسوع ربّ، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من بين الأموات نلت الخلاص. فالإيمان بالقلب يؤدي إلى البر، والشهادة بالفم تؤدي إلى الخلاص ...". "كل من يدعو باسم الرب ينال الخلاص . وكيف يدعون من لا يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون به من غير مبشّر؟ وكيف يبشّرون إن لم يرسلوا؟ وقد ورد في الكتاب المقدّس: "ما أجمل أقدام المبشّرين... فالإيمان إذاً من السماع. والسماع يكون سماع كلام عن المسيح".(رومة ١٠ : ٩ - ١٧).
فالإيمان قبل كل شيء هو حوار ومشاركة، دعوة إلى وحدة العقول والأفكار في وحدة الكلمة. وبعد ذلك يفتح الإيمان المجال لكل إنسان ليقوم بمغامرته الشخصية مع الحقيقة. للإيمان طابع جماعي وهو خلق وحدة الأفكار في وحدة الكلمة، لأن الله لا يريد أن يأتي إلى الإنسان إلاَّ بواسطة الإنسان. فهو لايفتش عن الإنسان خارج علاقته الإجتماعية والإنسانية . ولا يمكن للإنسان أن يقيم حواراً مع الله ولايعرف أن يقيم حواراً مع الآخرين. والحوار الحقيقي يتم عندما يتبادل الأشخاص شعورهم وعواطفهم، حقيقتهم وخبراتهم، يتبادلون ذواتهم وأفكارهم.
الإيمــان حريـــة
الإيمان هو حياة، وهو يعطي الحياة. إنه ليس روحاً ينطوي على ذاته إنما هو تجسّد في التاريخ وفي المجتمع.
الإيمان المسيحي هو تخطي للذات، هو تحرر من الذات ووضع الذات في خدمة السامي.
وهذا السامي ليس من صنع أيدينا ولا من فعل ذكائنا.
الإيمان المسيحي هو أيضاً خيار تجاه الإنسان، يعترف بأن الإنسان هو كائن منفتح نحو اللانهاية .
المسيح هو كائن "يأتي من لدُن الآب" ويتجه بحريته إلى الإنسان ليخلّصه.
أكون مسيحياً، حسب إنجيل القديس يوحنا، يعني أن أكون كالابن، أن أصبح ابناً أي أن لا أستند إلى ذاتي، أن لا أدعي بأنّي أقوم بذاتي، بأني أنا مصدر ذاتي، أنا أصنع ذاتي، إنمٰا أن أحيا كلّياً منفتحاً كالسيّد المسيح: "آتي من الآب... واتجه نحو الآب... لأستطيع التوجه نحو الآخرين ".
الخاتمــة
الإيمان المسيحي هو انفتاح نحو الله، وهو نظرة إلى الأمام، واستباق للرجاء.
هو الرجاء الحقيقي بكونه يدخل في نظام: الله في العالم والعالم في الله.
الإيمان المسيحي هو هبة الرّوح القدس المجانية لكل إنسان يقبل سرّ المسيح الخلاصي ويلبّي نداءه.
خلال هذه الايام الفصحية ونحن نحتفل بعيد قيامة المسيح من بين الأموات، للتعمّق في الإيمان وممارسته، لنتعاون مع عمل الرّوح القدس لتأليه الإنسان المؤمن ونموه ساعين مع الكنيسة إلى عيش شركة الثالوث الأقدس لنمو الإيمان فينا وتعزيز حياتنا المسيحية في كل مراحل العمر تعزيزاً راسخاً وشاملاً ً، ونقويها بالغذاء الرّوحي اليومي، لنستطيع نقل الإيمان، وتلقين العقيدة المسيحية، وتهيئة الأسرار المقدّسة وممارستها ممارسة منتظمة، والتنشئة على الصلاة والإهتمام بالحياة الخلقية، لنكون حقاً جسد المسيح الواحد ونصبح شهوداً له تجاه الآخرين.
نطلب من العذراء مريم أم المسيح وأم الكنيسة والرسُل وأُمّنا أن ترافقنا طوال أيام حياتنا لنعيش بإيمان وسلام، سائلين الرّوح القدس أن ينوّر عقولنا، ويقود خطواتنا، ويبارك أعمالنا ليثبّتنا في الإيمان لخلاصنا ولنمو الكنيسة وازدهارها.