تمر الأيام والسنوات و كأن ما حدث فى الرابع و العشرين من شهر أبريل عام 1915 كان أمس تدق الأجراس فى بهو الكنائس الأرمنية لتعلن عن الذكرى السادسة بعد المائة  لمذابح الأرمن ذلك الشعب القوى  المثابر الذى تعرض خلال المذبح إلى  تدمير متعمد للتراث الثقافي والديني والتاريخي والطائفي حيث تم تدمير الكنائس والأديرة الأرمنية في حين تحول بعضها إلى مساجد ودمرت المقابر الأرمنية، في العديد من المدن .
 
تحكى كتب التاريخ بداية  القصة و كيف كانت رحلة عذابات الأرمن على يد الأتراك بداية من القرن السادس عشر وقتها كان الأرمن تحت الحكم العثمانى ، و خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر ، بدأ الأرمن يُطالبون بإصلاح أحوالهم المعيشية و مساواتهم مع المسلمين ، بعدها تمت معاهدة برلين 1878 و نصت المادة ( 61 ) من الإصلاحات الأرمنية و حماية الأرمن من الاعتداءات التركية و الكردية و الچركسية لكن الإدارة العثمانية اعتبرت المادة ( 61 ) تدخلًا أوروبيًا فى شئونها الداخلية و رفضت تنفيذ هذه المادة مما دفع الأرمن إلى العمل الثورى لتنفيذها ؛ فما كان من الإدارة العثمانية إلا أنها واجهت الثورة الأرمنية بالملاحقات و الاعتقالات و فرض مزيدًا من الضرائب و كبت الحريات ، بعدها ارتكب الأتراك القوميون مذابح الأرمن لأسباب سياسية و اقتصادية واجتماعية و دينية ، فقد أرادوا تحويل الإمبراطورية العثمانية إلى دولة تركية قوامها الأتراك فقط ؛كما خشى الأتراك أن ينجح الأرمن فى إقامة دولة لهم فى الأنضاول الشرقى و اقتطاع ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية فى الأناضول ، خاصة بعد ما سيطر الأرمن على معظم مجالات الاقتصاد ، ولذا ، رأى الأتراك أنه يجب التخلص منهم حتى يكون الاقتصاد فى أيدى الأتراك فقط ،واجتماعيًا لأن الأرمن لهم ثقافة ولغة و أبجدية مختلفة عن الأتراك علاوة على أنهم ليسوا من الجنس التركى أو التركمانى ، فمن وجهة نظر الأتراك ،يُشكل الأرمن قاطنى الأناضول الشرقى عقبة كبرى أمام تنفيذ حلم تركيا للأتراك فقط . 
   وانتهى المشهد العثمانى الأرمنى باقتراف المذابح الحميدية 1894 – 1896 التى راح ضحيتها حوالى 300 ألف أرمنى ، ثم تكررت المذابح فى عام 1909 فى منطقة قيليقية ،وفى عام 1915 حدثت عمليات الإبادة وراح ضحيتها حوالى مليون ونصف المليون أرمنى ، بعدها حدثت مذابح مطلع عشرينيات القرن العشرين راح ضحيتها عدة  آلاف ، وبالطبع تم توظيف الدين  فى الإبادة الأرمنية عندما حرًّض النظام التركى الحاكم الأكراد " المسلمين " ضد الأرمن " المسيحيين " ، حتى يتخلص جنس من الآخر لصالح الأتراك .
 
بالطبع وقتها لم تسلم المرأة الأرمنية و اطفالها من عمليات الإبادة الممنهجة فقاموا بعزل النسوة الأرمنيات قبل قتل أزواجهن أمام أعينهن ،ثم جرت تعريتهن وكان الاغتصاب جزءًا لا يتجزأ من مشاهد الإبادة الجماعية حتى صلبهن ؛ فقد كان القادة يخبرون العساكر بأن يفعلوا بالنساء كل ما يتمنوه ، مما أدى إلى انتشار الاعتداء الجنسي على نطاق واسع، وتم بيع بعض النساء كعبيد جنس في بعض المناطق، مما شكل مصدراً هاماً للدخل للجنود المرافقين و أن حوالي ربع الفتيات الشابات، تعرضن للاغتصاب بشكل منتظم من قبل رجال الدرك العثماني ،بينما كانت أقصر طريقة للتخلص من النساء والأطفال في مختلف المخيمات هي حرقهم .
 
   أما الأطفال فقد تم تحميلهم في قوارب ونقلهم إلى البحر ، آلاف من النساء والأطفال الأبرياء يُوضعون على قوارب انقلبت في البحر الأسود ، وصلت أحمال القوارب المرسلة من بلدة الزور إلى النهر في آنا، على بعد ثلاثين ميلاً، مع اختفاء ثلاثة أخماس من الركاب و غرق 900 امرأة أرمنية في بتليس، بينما في أرزينجان أدت الجثث في نهر الفرات إلى تغيير مسار النهر لبضعة مئات من الأمتار ،عددًا لا يحصى من الأرمن قد غرقوا في نهر الفرات وروافده.
 
   عانى الشعب الأرمنى كثيرًا من ويلات تلك المذابح ويقاسى الأن شباب الأرمن فى محاولات مستمية للإعتراف بالمذابح التركية فى حق الأرمن الأجداد ؛ فبالرغم من نجاح اللوبي الأرمني في محاصرة تركيا، عبر انتزاع الاعتراف بهذه المجازر، حين بحثت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، في جلستها المنعقدة في مارس 1979 التقرير المتعلق بالإبادات الجماعيّة، وقررت اللجنة، بأغلبية ساحقة، إعادة الفقرة (30) إلى التقرير، و هى المتعلّقة بالمذابح الأرمنيّة، كانت قد حذفت من التقرير، نتيجة الضغوط التركيّة واتخذت  قرار يقضي بإدراج المذابح المرتكبة بحق الأرمن عام 1915 كأول جريمة إبادة في القرن العشرين ؛و كذلك نجاح اللوبي الأرمني في انتزاع اعتراف بهذه المذابح من البرلمان الأوروبي و إعلان كنيسة "  اتشميادزين " قداستهم كشهداء أبرار فى حضور شخصيات رسمية و رؤساء الكنائس المسيحية المشرقية و ممثلين من الكنيسة الكاثوليكية و البروتستانتية.؛ إلا أن تركيا لا تزال تعاند بمنتهى العجرفة و بكل إصرار على عدم  الإقرار بتلك المذابح البشعة و إلا إنسانية و كأنها تُصر على  تصدير شرها للعالم .
 
   بالرغم من أن نيكول باشينيان رئيس الوزراء الأرمنى ندد من قبل بالجريمة التي تعرض لها الأرمن، ووصفها بأنها "جريمة لم تكن فقط ضد هويتنا الإثنية وإنما ضد الحضارة الإنسانية"، مضيفاً بأنّه: "لا تزال تداعيات الإبادة قائمة، وتركيا لم تقدم أبداً اعتذارات لما ارتكبته". و طالب أنقرة باعتراف رسمي بالمجازر في تلك الفترة على أنها إبادة.
 
   و من هنا يأتى دور مصر  المحورى حيث طالب مجلس النواب المصري العام الماضى بإصدار قرار الاعتراف بعمليات الإبادة الجماعية والمذابح والتهجير القسري التي ارتكبتها تركيا ضد الأرمن خلال عامي 1915 و1916 وإدانة تلك المذابح، خاصة و أن اعتراف مصر بارتكاب تلك المذابح سوف يفتح الباب أمام دول المنطقة لاعتراف مماثل، و إقرار مصر بتلك الجرائم سيقودنا إلى محاكمة تركيا دوليا عن ارتكابها لتلك الجرائم.
 
و بإعلان الرئيس الفرنسي ماكرون ذكرى الإبادة الأرمنية يوماً وطنياً في فرنسا، بعد نحو 18 عاماً من الاعتراف بجريمة "الإبادة" ، كما قام بتكريم المؤرخ التركي تانير أكشام، و تسليمه "ميدالية الشجاعة"، عن كتابه "أوامر بالقتل"، الذى يعد انفراداً تاريخياً لحصوله على "برقيات" ووثائق عثمانية وجهت على نحو مباشر بتنفيذ الإبادة الأرمينية والقتل الجماعي، و و ما يحمله الكتاب بين طياته من إثبات علمي تاريخي وموثق ينفي مزاعم أنقرة.
 
ستظل أرمينيا دولة قوية عفية لا تنكسر و أن كانت مذابح الأرمن تعتبر من أبشع جرائم الإبادة الجماعية إلا أنها لن تنكسر بالرغم من هول ما قاسته لكنها ستبقى شامخة مرفوعة الرأس إلى الأبد .