يوسف سيدهم
وكما عهدنا في مثل هذه المناسبات المهيبة كانت قمة الترتيبات وصول نعش الأمير فيليب موضوعا علي عربة مجهزة خصيصا لذلك, محاطة بحرس الشرف واصطفاف أعضاء الأسرة المالكة المقربين -الذين تم تقليصهم إلي نحو ثلاثين فردا بسبب التدابير الاحترازية لجائحة كورونا -ووقف الجميع في نظام وصمت وإجلال حتي وصلت سيارة الملكة إليزابيث الثانية وتحرك الموكب نحو كنيسة سانت جورج بقصر وندسور حيث أقيمت الصلوات وتليت الكلمات قبل إنزال النعش إلي القبو المخصص له في الكنيسة طبقا لتقاليد العائلة المالكة البريطانية.
الوقائع والتفاصيل كلها تعكس قمة الإجلال والتقدير… الحزن لرحيل الأمير فيليب باد علي وجوه قرينته جلالة الملكة وأبنائه الثلاثة وابنته وأحفاده وحفيداته, لكن كانت -وكما عهدنا في مثل هذه المناسبات- الوسيلة الوحيدة للتعبير عن ذلك هي الصمت… صمت مهيب أضاف كثيرا إلي وقار المشهد والمراسم… صمت غلف المكان ولم تقطعه سوي نداءات أفراد حرس الشرف لدي تحركاتهم وكلمات القيادات الدينية تأبينا للأمير والألحان والترانيم الكنسية.
هذه ليست المرة الأولي التي أعايش فيها مراسم جنازة أو موكب تشييع جثمان شخصية عامة أو سياسية أو ملكية في إنجلترا -وأثق أن ذلك ليس مقصورا علي إنجلترا وحدها بل يمتد إلي دول كثيرة عبر قارات العالم حيث ثقافة التعامل مع الموت تحكمها معايير الإجلال والوقار والصمت- وأذكر أنني تابعت علي الراديو قبل شيوع البث التليفزيوني الحي مراسم تشييع جنازة رئيس وزراء بريطانيا السيرونستون تشيرتشل عام 1965 ولاتزال منذ ذلك الحين عالقة في ذهني أصوات الموسيقات الجنائزية المصاحبة للموكب في خط سيره عبر شوارع لندن والصمت المهيب يغلف المكان حتي أن المذيع الذي كان ينقل وقائع المشهد للمستمعين ترك أجواء المشهد تتحدث عن نفسها وكان مختصرا جدا في كلامه خفيض الصوت حتي يخال للمستمع أنه تم تفريغ الشوارع من المارة بينما الحقيقة أن الشوارع علي طول مسار الجنازة كانت مكتظة بأفراد الشعب الذين تقاطروا لوداع هذا السياسي الداهية الذي عبر ببلاده محنة الحرب العالمية الثانية وانتصر.
تكرر ذلك عام 1997 عند تشييع جنازة الأميرة ديانا الزوجة السابقة للأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا, بعد مقتلها في حادث سيارة أليم وتعلق الشعب البريطاني بها حتي أطلق عليها أميرة القلوب وبالرغم من التهاب المشاعر إزاء حادث مقتلها إلا أنه عندما حانت ساعة المضي في مراسم جنازتها كان نفس المشهد المسيطر علي المكان.. الحزن الدفين في الصدور والصمت المطبق واحترام الموكب الجنائزي وكافة المراسم… ثم بعد ذلك تكرر الشيء نفسه في وداع الملكة إليزابيث الأم والدة الملكة إليزابيث الثانية وزوجة الملك جورج السادس والد الملكة والتي رحلت عام 2002 عن عمر 102 عام.
أعرف أننا في بلادنا لنا ثقافات شعبية تختلف عما سردته هنا فيما يخص ثقافة الموت والحزن, لكني في كل واقعة من التي ذكرتها وقفت متأملا متعجبا متسائلا: لماذا لا نستطيع أن نحزن مثلهم؟… وإن كان علي المستوي الشعبي يرتبط الموت بتفجر مشاعر البكاء والعويل والنحيب ولطم الوجوه… لماذا ينسحب ذلك علي جنازات رؤساء وقيادات وشخصيات عامة وفنية حيث يتم التعبير عن صدمة الموت وفداحة الخسارة بانفلات المشاعر والصراخ والفوضي التي تصل إلي تكالب البعض علي النعش واختطافه بدعوي حمله.. ودعوني أسجل أن تلك الغوغائية لا تصدر عن أسرة المتوفي أو أقرب الأقربين له والذين يصرخون بدورهم في هلع أن يتم احترام راحلهم وعدم بهدلته!!!
لن أخوض في ذكر أسماء القيادات المصرية والشخصيات العامة التي عوملت بهذا العبث, لكني أشكر الله كلما رأيت مصر تنظم جنازة رسمية مهيبة لأحد راحليها وأقول في نفسي هذا هو التكريم اللائق بتلك الشخصية بعيدا عن المشاعر الشعبية التي تضل طريقها.