بقلم : هاني صبري- المحامي
يعتبر عيد "شم النسيم" الاحتفال الوحيد الذي جمع المصريين بمختلف عقائدهم الدينية مُنذ الآلاف السنين، دون أن يلبس ثوبا عقائديا على الإطلاق. ويأتي عيد "شم النسيم" على قائمة الأعياد الزراعية الكونية في مصر القديمة، واصطبغ بمرور الوقت بصبغة اجتماعية ذات صلة بالطبيعة، كما يتضح من اسمه "شمو" في اللغة المصرية القديمة، الهيروغليفية، وهي نفس الكلمة التي أطلقها المصريون القدماء ومعناه "الحصاد" وتحولت الكلمة إلى "شم" في اللغة القبطية، في دلالة واضحة على عدم تحريف الاسم المصري الأصلي بإدخال كلمة "نسيم" العربية، التي يعرفها المعجم بأنها "ريح لينة لا تحرك شجرا"، للإشارة إلى اعتدال الجو ومقدم فصل الربيع.
لقد شهدت مصر القديمة أعيادا دينية واجتماعية وزراعية، اختلطت شعائرها الاحتفالية بطقوس خاصة ميزتها عن سائر حضارات الشرق القديم، منها أعياد اندثرت لأسباب تاريخية ودينية، وأخرى كُتبت لها الحياة في ذاكرة المصريين حتى الآن كعيد شم النسيم، الذي يحتفل به المصريون منذ نحو 4700 عام وحتي وقتنا هذا.
واختلف العلماء في تحديد بداية واضحة ودقيقة لاحتفال المصريين بعيد "شم النسيم"، فمنهم من رأى أن الاحتفال بدأ في عصور ما قبل الأسرات، بحسب تقسيم تاريخ مصر القديم. ورأى آخرون أنه يرجع إلى عام أربعة آلاف قبل الميلاد، إلى أن استقر أغلب الرأي على اعتبار الاحتفال الرسمي به في مصر قد بدأ عام 2700 قبل الميلاد، مع نهاية عصر الأسرة الثالثة وبداية عصر الأسرة الرابعة، وإن كانت هذه الآراء لا تنفي ظهوره في فترة سابقة ولو في شكل احتفالات غير رسمية.
اعتبر المصريون القدماء عيد "شم النسيم" بعثا جديدا للحياة كل عام، تتجدد فيه الكائنات وتزدهر الطبيعة بكل ما فيها، في دلالة رمزية على "تجدد الحياة" وعلي الخير والسلام وانتشار الخضرة وببداية موسم الحصاد، فكانوا يملأون مخازن الغلال بحصاده، ويقوموا بطقوس احتفالية بسنابل القمح الخضراء.
وحمل عيد "شم النسيم" طابع الاحتفال الشعبي منذ عصور قديمة للغاية، سجلها المصري في نقوشه على جدران مقابره، ليخلّد ذكرى نشاطه في ذلك اليوم، فكان الناس يخرجون في جماعات إلى الحدائق والحقول للتريض، والاستمتاع بالزهور والأخضر على الأرض، حاملين صنوف الطعام والشراب التي ارتبطت بهذه المناسبة دون غيرها، وحافظ عليها المصريون حتى الآن، في مشهد موروث ومستنسخ كل عام لعادات مصرية قديمة غالبت الزمن وهذا يُظهر قدر تمسك المصري بتاريخه وبكل ما يشع بهجة للإنسان في حياته وفي محيط أسرته.
نقل المصريون قديما الاحتفال بعيد الحصاد، "شم النسيم"، وطقوسه إلى حضارات الشرق القديم في عهد الملك تحتمس الثالث (1479-1425 قبل الميلاد) وفتوحاته العسكرية، ونشر عادات وتقاليد مصرية غريبة عن هذه الحضارات، فكُتب لها الاستمرار وإن حملت أسماء مختلفة.
إن المشهد التاريخي في مصر يُؤْثر في التصورات الذهنية التي غالبت الأيام، بعد أن ظلت أرضها المركز الأول لكل حضارة وحياة، فمصر ليست دولة تاريخية , مصر جائت أولاً ثم جاء التاريخ .
وعلي ضوء ما تقدم فهناك حالة من الغضب بين جموع المصريين من قرار ترحيل إجازة عيد شم النسيم إلى اليوم الخميس التالي للإجازة.
في تقديري هذا القرار قد جانبه الصواب وفِي غير محله وخاطئ للغاية حتي لا يزايد علينا أحد هذا احتفال لكل المصريين وليس له بعد ديني أو طائفي أو سياسي.
السؤال الذي يطرح هنا ما هو الداعي لتغيير موعد عيد شم النسيم المستقر في وجدان المصريين منذ آلاف السنين ويعتبر هذا الاحتفال من المناسبات القليلة الباقية التي يحتفل فيها المصريين معاً منذ فجر التاريخ وحتي الآن ويجب الحفاظ علي الاحتفال به في موعده المقرر عبر التاريخ وعدم تغيير موعده.
فضلاً عن أن هذا القرار غير موفق بالمرة ويفتح باب للتأويل بين المصريين حيث إن هناك دعوات رجعية من قبل بعض التيارات الدينية المتشددة ينادوا دائماً بعدم الاحتفال بشم النسيم لأنه فيه تشبهاً بالفراعنة الكفار حسب مزاعمهم، ويريدون طمس الهوية المصرية وتاريخها العظيم، ويجب عدم الالتفاف لمثل لهذه المطالبات الغير منطقية.
لذلك نجد أن القرار يضع المصريون في حيرة من الأمر والكثيرين شعروا بوجود مجهودات حثيثة علي أرض الواقع نحو إحياء ذكري الحضارة المصربة القديمة وهذا كان ثابت من احتفال نقل المومياوات الذي أبهر العالم والمتاحف التي يتم تشييدها في كل مكان وترميم الآثار المصريين، وفجأة وبدون مقدمات يصدر قرار بتغيير موعد عيد شم النسيم.
ونتساءل هل تم دراسة القرار وتداعياته قبل إعلانه وهل يملك مُتَّخِذ القرار حسابات دقيقة كالقدماء المصريون لتحديد موعد آخر للاحتفال ام هو قرار عشوائي لم يتم دراسته؟!.
وهذا القرار إذا تم تطبيقه سيضر السياحة الداخلية في ومصر وربما مع الوقت سيتأثر الاحتفال بهذا العيد لتغيير موعده.
وبناء عليه نطالب السيد رئيس مجلس الوزراء العدول عن هذا القرار وأن يحتفل المصريون بعيد شم النسيم في موعده المحدد منذ الآلاف السنين، نريد الحفاظ علي الأشياء التي تجمع أيناء الوطن الواحد والتركيز علي كل ما يساهم في دعم التعايش المشترك بين المصريين.