مدحت بشاي
لعل من أروع مشاهد احتفالية الموكب الحضارى العظيم بانتقال مومياوات بعض ملوك وملكات مصر، قدوم الرئيس عبد الفتاح السيسى عبر ممر طويل ليكون فى نهايته، فى شرف استقبال التاريخ وصناعه من الأجداد العظام (وكنت أرى استكمالًا للمعنى الحضارى للمشهد لو تم إضافة ما من شأنه توثيق أهم محطات التاريخ الحضارية المصرية فوتوغرافيًا، أو بتقنيات الفيديو المعاصرة، وتم عرضها بترتيبها الزمنى على جانبى ذلك الممر التاريخى تصاحب خطوات الرئيس.. مجرد رأى) للتأكيد على أننا بحضور الرئيس الحالى للبلاد إنما ندشن ونعلن بداية عصر جديد لجمهورية جديدة، قرر فيها شعبنا العظيم احتضان كل صفحات التاريخ والحضارات التى عاشت على أرض مصر، لعرضها جميعًا فى متحف قومى للحضارة بكل وثائق الإنجازات الحضارية، بكل تنوعاتها الثرية والعبقرية، وتتابع تأثير وجود الأديان والعقائد، ونظم الإدارة وغيرها من ملامح حياة تتجدد. نعم كانت نقطة الوصول حيث متحف للحضارة فى تأكيد لمعنى ومضمون هام أعلنه وجود رئيسنا على عتبات باب المتحف، أن التاريخ حلقات تترابط ورقائق حضارية تتراكم وتتواصل، ولا مجال لتجاوز حقب زمنية أو تجاهل محطات حضارية عبر التاريخ.
وعليه، يؤكد الدكتور حسين فوزى فى كتابه «سندباد مصرى» على مفهوم «إن تاريخ مصر، فى طريقة كتابته، مازال شذريًا مقطعًا لا نرى فى فصوله أكثر من التتابع التاريخى... والقارئ العام لا يجد بين يديه تاريخًا للحقبة المسيحية يبسط له أمور العقيدة، لأن المؤرخ المسلم يتحرج من الدخول فى بعض التفاصيل، كما يتحرج المؤرخ القبطى من التبسط فيها، إذا ما كان يكتب لمواطنيه جميعًا وغالبيتهم من المسلمين، وبذلك ظلت الحقبة المسيحية فى شبه كلام تاريخى..».
وفى هذا السياق يقول «د. باهور لبيب»، وهو الباحث الكبير المتخصص فى دراسة هذه الحقبة وعلاقتها بتاريخ مصر القديمة، إلى جانب أنه المدير الأسبق للمتحف القبطى: «جرى المؤرخون على أن يربطوا التاريخ القبطى بالمسيحية، فى حين أنهم لم يروا فيه إلا الناحية الدينية وهى ناحية قد أثرت بلا شك على الكثير من نواحى التفكير المصرى»، ولكن الواقع أن العصر القبطى هو عصر أهم خصائصه ظهور الشعب المصرى على صفحة التاريخ، ثم يضيف لبيب «وامتاز هذا العصر بالغموض، كما تنقص الدقة والإنصاف من أرخ له من الأجانب والمصريين على السواء».
وعليه، أرى أهمية كتاب الكاتب والباحث الرائع «محمود مدحت» فى التأريخ لهذه الحقبة «مصر القبطية ـ المصريون يعمدون بالدم» برؤية جديرة بالتقدير، حيث الجهد البحثى المتميز فى إطار الظروف التاريخية فى نهاية التسعينات من القرن الماضى عند إعداد وإصدار الكتاب، وحيث اتباع النهج البحثى العلمى اللائق بموضوع الدراسة.
لقد أكدت مادة الكتاب ومحتواه العلمى على أن مصر القبطية لم تكن فترة منقطعة فى تاريخ مصر، فلم تكن رومانية ولا بيزنطية، وإغفال هذه الفترة التاريخية الهامة والحيوية فى تاريخ مصر أمر غير مفهوم، مع أن تاريخ هذه الحقبة من متطلبات إدراك المواطنة المصرية وإحياء الذاكرة الوطنية، حيث شكلت نقلة نوعية، والتى فيها تمسك المصريون بثقافتهم وقوميتهم.
إن إسقاط نحو ثمانية قرون من تاريخنا القومى العام ليس بالأمر السهل.. ومن يتحمل هذا التقصير؟.
نقلا عن المصرى اليوم