عاطف بشاي
يرتاد الكاتب الكبير «إبراهيم عيسى»، فى روايته الأخيرة «كل الشهور يوليو»، مناطق جديدة تحتشد بالتفاصيل الشائقة لوقائع مثيرة بمقدمات وإرهاصات ثورة 23 يوليو 1952، وفى سياق أدبى تمتزج فيه الرؤية التاريخية بالتصور الدرامى فيما يمكن تسميته «الفانتازيا السياسية»، محصنًا بخيال جامح وبلاغة آسرة.. وهو يرسم صورة ساخرة ذات دلالة تحتوى على مفارقة درامية للملك فاروق وهو يخرج من البحر يضرب الماء غضبًا وسخطًا واستنكارًا وهو يسمع رئيس البوليس الملكى يخبره بأن هناك تمردًا من قوات الجيش فى القاهرة.. ويرتدى نظارته السوداء وقد أخفى حمرة عينيه.. ويركب سيارة الشاطئ ويقودها بنفسه.. ويدخل إلى مكتبه فى قصر المنتزه فى الإسكندرية، ويتصل برئيس الأركان، ويأمره بسرعة القبض على قائمة من الضباط.. ويصرخ وهو يُملى الأسماء: «وأول واحد تجيبوه من بيته هو (محمد نجيب)»، باعتباره خصمًا وندًا عتيدًا له.. وصاحب بطولات كبيرة فى حرب (1948)، جعلت له شعبية واسعة بين ضباط الجيش.. وقد سبق أن فاز برئاسة نادى الضباط فى مواجهة مرشح الملك..
ويقول «إبراهيم عيسى»، فى رؤيته الدرامية، إن القوات البحرية الملكية بدأت تُحكم سيطرتها على الإسكندرية.. بينما انتشرت قوات الجيش بأوامر قائده فى شوارع القاهرة، وانْقَضَّ البوليس الحربى على كل الضباط المطلوب القبض عليهم، وتم ترحيل اللواء «محمد نجيب» إلى السجن الحربى مع مجموعة من الضباط، الذين أطلقوا على أنفسهم «الضباط الأحرار»، فى صباح 23 يوليو 1952، وأذاع الملك «فاروق» بصوته بيانًا من الراديو يعلن عن إجهاض تمرد عسكرى والقبض على كل المشاركين فى المؤامرة.. ثم يؤكد فى نهاية تلك الفقرة أن شيئًا من هذا كله لم يحدث.. بل إن ما جرى كان العكس تمامًا.. فقد نجحت الثورة.. لكننا إذا سايرنا «إبراهيم عيسى» فى تصوره الخيالى وطرحنا سؤال: «ماذا لو فشلت الثورة؟»، فالحقيقة أن هذا التصور كان واردًا لأنه تسربت إلى القصر الملكى، قبل قيام الثورة بساعات محدودة، معلومات عن اعتزام الضباط الأحرار التحرك بالقوات المختلفة، حسب الخطة التى وضعها «زكريا محيى الدين» للاستيلاء على السلطة وعزل الملك.. وحسب رواية «خالد محيى الدين»، فى كتابه المهم، «والآن أتكلم»، أن البطل الذى أنقذ الثورة هو «يوسف الصديق»، الذى تحرك بقواته قبل الميعاد المتفق عليه.. ولو كان قد تحرك فى الميعاد المقرر لقُبض عليه وانتهت الثورة قبل أن تبدأ.. وهو الذى نفذ خطة الاستيلاء على قيادة الجيش، حيث اقتحم مبنى القيادة، واعتقل كبار القادة العسكريين، وفتح الباب أمام نجاح حركة الجيش..
أما النتيجة الحتمية لفشل الثورة إذا ما تمكن خصومها من اعتقال أبطالها بقيادة «محمد نجيب» و«جمال عبدالناصر» فهى إعدامهم جميعًا، بعد محاكمة صورية سريعة.. ربما فيما عدا «أنور السادات»، فقد أتى من رفح متأخرًا، ثم ذهب إلى السينما.. وهناك تشاجر مع أحد المتفرجين.. وذهب إلى قسم البوليس، وحرر محضرًا بالواقعة.. وعاد إلى منزله فى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، ليجد ورقة من «عبدالناصر» تبلغه بضرورة الحضور حيث بدأت الحركة..
أما إذا واصلنا الاسترسال فى تصور «إبراهيم عيسى» والإجابة عن سؤال: ماذا كان سيحدث إذا نجح الملك فى القبض على الثوار وإعدامهم.. وهل سوف يغير من سياسته؟!.. فإنى أتصور أنه كان سوف ينفذ قرارًا بالتخلص من الحاشية، حيث ارتفعت صيحات الغضب سواء من المعارضة أو الساسة المقربين منه بأنهم يسيئون إليه وإلى حكمه.. ومنهم «محمد حسن» الخادم الخاص و«إلياس أندراوس» المستشار الاقتصادى.. و«يوسف رشاد» الطبيب الخاص.. و«حسن عاكف» الطيار الخاص.. وكذلك إبعاد «كريم ثابت» المستشار الصحفى.. و«أنطون بولى» مدير الشؤون الخصوصية.. الذى أعتقد أنه كان سوف يستغنى عن خدماته، ويمنحه مكافأة مجزية لنهاية الخدمة، يستثمرها فى شراء محل حلويات صغير، يكبر مع الأيام حتى يصبح ذلك المطعم الفاخر بالكوربة «مصر الجديدة».. وهو ما حدث بالفعل، بعد سجنه إثر قيام الثورة، ثم خروجه منه بعد قضاء فترة العقوبة..
أما رائعة «كل الشهور يوليو» لإبراهيم عيسى فهى رواية بديعة تستحق المزيد من الدراسة والتحليل..
Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم