قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (823)
بقلم: يوسف سيدهم
ما من شك أن من حق المصريين جميعا أن يكونوا مهمومين بأمن مصر المائي, وأعني بذلك القضية القومية المصيرية المطروحة منذ زمن والخاصة بأزمة سد النهضة الإثيوبي وما يتصل بها من لغط وضع إثيوبيا في مواجهة مع كل من مصر والسودان… إثيوبيا تتستر وراء حقها في التنمية وتوليد الطاقة الكهربائية من السد, ومصر والسودان تتمسكان بحقهما في حصصهما التاريخية الموثقة من مياه نهر النيل… وفي مقابل اعتراف مصر والسودان بحق إثيوبيا في التنمية, رحبت الدولتان بالجلوس مع إثيوبيا علي مائدة المفاوضات لبلورة جميع السيناريوهات المحتملة للتعامل مع مختلف حالات مواسم الفيضان والاتفاق علي كيفية التعامل مع كل منها, إلا أن إثيوبيا علي مدي ست سنوات حتي الآن -منذ توقيع اتفاق المبادئ بين الدول الثلاث في 2015- نزعت إلي تعطيل كل اتفاق واللجوء إلي المماطلة والتسويف وإضاعة الوقت وتعويق كل محاولة للوصول بالمفاوضات إلي بر الأمان, ووصل بها الأمر إلي الرضوخ لاستعانة الدول الثلاث بالوساطة الدولية ومن بعدها الأفريقية -رضوخا شكليا- تبعته بالتهرب من توقيع أي اتفاق وتمادت في تحدي واستفزاز مصر والسودان والاستهانة بمصالحهما التي تتوافق مع القوانين الدولية وقوانين المجاري المائية التي تربط الدول علاوة علي تنصلها العجيب من جميع الاتفاقيات الموقعة في هذا الشأن.
لذلك كله كان من الطبيعي والمفهوم أن المصريين وهم يتابعون ذلك السيناريو العبثي قد عيل صبرهم وباتوا يتساءلون عن المخرج من ذلك الموقف المتأزم, وبالرغم من تصدي القيادة السياسية المصرية بكثير من الحكمة والتأني والصبر وبالتنسيق الكامل مع القيادة السياسية السودانية لملف أزمة سد النهضة, وبالرغم من تأكيد الرئيس السيسي مرارا- وبكل جدية وصرامة- أنه لا تفريط في مصالح مصر المائية ولا تنازل عن قطرة ماء واحدة من حصة مصر في نهر النيل شريان الحياة للمصريين عبر آلاف السنين, إلا أن الأمر لم يخل من اندفاع الكثيرين عبر بعض المنابر الإعلامية وسائر وسائط التواصل الاجتماعي في إذكاء وتيرة الصراع وترجمة التصريحات الصادرة عن القيادة السياسية بما يخرجها عن سياقها السياسي ويدخلها في مغبة المواجهات العسكرية… واستمر تردي هذا الاندفاع حتي وصل إلي تداول غير مسئول لسيناريوهات وخطط لحل المشكلة باللجوء إلي القوة, الأمر الذي يضل طريقه للأسف, لأنه يمنح إثيوبيا هدية تتلقفها وتتاجر بها في المحافل الدولية مدعية أن طبول الحرب تدق ضدها من جانب مصر والسودان!!
لست أملك إزاء هذا الواقع المقلق إلا أن أدعو إلي التعقل والارتكان إلي الثقة في حكمة القيادة السياسية المصرية في تسيير دفة الأمور بما يخدم المصالح القومية الاستراتيجية للبلاد وبما يحفظ حقوق مصر في نهر النيل بالتوافق مع القانون الدولي والمشروعية وبعيدا عن أية مغامرات غير محسوبة… ودعوني في هذا السياق أسجل هذه الخواطر:
** بالرغم من تمسك القيادة السياسية بآلية التفاوض السلمي, وبالرغم من تراكم الإحباط من فشل تلك الآلية حتي أن المشاركين في الوفد المصري في المفاوضات الأخيرة التي جرت برعاية الكونجو -برئاسة وزير الخارجية ووزير الري والموارد المائية- عبروا عن يأسهم من تحقيق أي تقدم في اتجاه الحل… يظل تطوير آلية حل الخلافات بين إثيوبيا وكل من مصر والسودان مرهونا بسبل كثيرة معقدة تقدر عليها القيادة السياسية وحدها تتضمن -دون أن تقتصر علي- المشاورات الدولية وخلق رأي عام عالمي مدرك ومتفهم لحقوق مصر والسودان في هذه القضية.
** الحسابات الخاصة بالإعداد لتجاوز مسار التفاوض السلمي إذا لزم الأمر, هي حسابات في غاية الأهمية والدقة ولا يقدر عليها الرأي العام الشعبي مهما كان مهموما بأمن مصر المائي… فهي حسابات تمتلك مفرداتها القيادة السياسية بالتنسيق مع القيادتين العسكرية والمخابراتية حيث يتم تقدير وتقييم حشد هائل من المعلومات والمعطيات والثوابت والمتغيرات قبل الوصول إلي القرار الذي يحقق مصالح مصر الاستراتيجية ويصون أمنها وكرامتها وسمعتها وهيبتها.
** لعل المصريين المهمومين بهذه القضية الحساسة في حاجة إلي تذكيرهم بمواد الدستور التي تطمئنهم إلي المعايير والمسارات الراسخة التي تضمن التعامل معها بما تتطلبه من التزام ورشد.. حيث تنص المادة (44) من الدستور علي: تلتزم الدولة بحماية نهر النيل, والحفاظ علي حقوق مصر التاريخية المتعلقة به, وترشيد الاستفادة منه وتعظيمها وعدم إهدار مياهه أو تلويثها…… وتنص المادة (152) علي: رئيس الجمهورية هو القائد الأعلي للقوات المسلحة, ولا يعلن الحرب, ولا يرسل القوات المسلحة في مهمة قتالية إلي خارج حدود الدولة, إلا بعد أخذ رأي مجلس الدفاع الوطني وموافقة مجلس النواب بأغلبية ثلثي الأعضاء…… وتنص المادة (203) علي: ينشأ مجلس الدفاع الوطني برئاسة رئيس الجمهورية وعضوية رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب ووزراء الدفاع والخارجية والمالية والداخلية ورئيس المخابرات العامة ورئيس أركان حرب القوات المسلحة وقادة القوات البحرية والجوية والدفاع الجوي ورئيس هيئة عمليات القوات المسلحة ومدير إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع. ويختص بالنظر في الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها…… وتنص المادة (205) علي: ينشأ مجلس للأمن القومي برئاسة رئيس الجمهورية وعضوية رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب ووزراء الدفاع والداخلية والخارجية والمالية والعدل والصحة والاتصالات والتعليم ورئيس المخابرات العامة ورئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب. ويختص بإقرار استراتيجيات تحقيق أمن البلاد, ومواجهة حالات الكوارث, والأزمات بشتي أنواعها, واتخاذ ما يلزم لاحتوائها, وتحديد مصادر الأخطار علي الأمن القومي المصري في الداخل والخارج, والإجراءات اللازمة للتصدي لها علي المستويين الرسمي والشعبي….
*** أيها الشعب المهموم بأمن مصر المائي.. سيب العيش لخبازه.