فاطمة ناعوت
يكفى أن تنظرَ إلى وجه «شريهان» المصرى الفاتن؛ لتوقنَ أن بالحياة ما يستحقُّ أن يُعاش. يكفى أن تتأملَ رقصَها كفراشةٍ مُحلّقة بين رؤوس الزهور، لتتعلمَ أن لا شىءَ فى الحياة بوسعه أن يكسرَ الإنسانَ، إلا إذا أراد «هو» أن ينكسر. الانكسارُ قرارٌ، والصمودُ قرار. الضعفُ والهزيمةٌ قرارٌ، والبأسُ والانتصارُ قرارٌ. لا أحدَ بوسعه أن يكسرَ أحدًا إلا نفسه. إعلانٌ صغيرٌ لا تتجاوز مدّتُه الدقيقة، فاجأتنا به الجميلة «شريهان خورشيد»، لكى تعطينا درسًا مُبهجًا وصعبًا، يعلِّمنا أن الحياةَ منحةٌ غاليةٌ يمنحها اللهُ للجميع، ولكن لا يعرف قدرَها وقيمتها إلا ذوو العزم. فى لقائى الأخير معها قبل بضع سنوات، فى الحفل الذى أقامه «العدل جروب» على شرفها فى أحد الفنادق الكبرى، عانقتُها طويلًا وعانقتنى. ضممتُها إلى صدرى ليس كما تضمُّ الصديقةُ صديقتَها ولا الشقيقةُ شقيقتَها، ولا الكاتبةُ فنانةً أحبتها وألهمتها. بل عانقتُـها كما يعانقُ الإنسانُ الحياة. عانقتُ نموذجًا عصيًّا على التصدّع، لكى أستمدَّ منها طاقةً على المواجهة ورفض الانكسار. كنتُ سعيدةً بعودتها إلينا، ومبهورة بقوتها الفولاذية التى تسكنُ هذا الجسد الرقيق وتلكما العينين السوداوين النجلاوين.
عرفناها فى الأفلام فنانةً من الطراز الرفيع تؤدى الأدوار الصعبة، فهى الصعيدية المكلومة التى تُعدّد حزنها، وهى الصبية المقهورة التى تُدفن فى القبر حيّةً، فتتمرد على جبروت الذكور. وعرفناها فى الفوازير والمسرحيات عصفورةً تملأ الدنيا رقصًا وشدوًا. ترسم فى الفضاء بجناحيها الصغيرين وجسدها النحيل تابلوهاتٍ أوبراليةً تُلوّنها بألوان ريشها. وفى فترة غيابها، تساءلتُ: هل يمكن لأحدٍ أن يجرحَ تلك العصفورة ويكسرَ جناحَها؛ فتقرّرَ أن تعتكفَ وتعتزل العالمَ حتى يبرأ جناحُها من النزف وقلبُها من الحَزَن؟! نعم. فالعصافيرُ تكره أن يرى الناسُ دموعَها أو أن يسمعَ أحدٌ وجيبَها. العصافيرُ خُلقتْ للغناء لا للنحيب. لذا، اختارت العصفورةُ قفصًا حديديًّا، فتحتْ بابَه ودخلت، ثم ركلت البابَ بكعب حذائها. مكثت فى القفص سنواتٍ؛ لكيلا ترى جراحَها عين، ولا تسمع أنينَها أُذُن. كانت العصفورةُ جريحةً تنزفُ، وتتجرّع الوجعَ ووحيدةً. أبتْ كبرياؤها أن تلمحَ فى عيوننا نظرةَ إشفاق لا تليقُ برفعتها. رفضَت أن تسمع عبارة مثل: «انظروا العصفورةَ التى ملأتِ الدنيا شدوًا كيف صمتت! انظروا الساحرةَ الآسرةَ التى لوّنتِ السماءَ بألوانها ورقصها وغنائها، كيف أقعدَها الوجع!».
جميعُنا شاهد تلك العصفورة، وأحببناها. بحثنا عن القفص الذى تاه بين الحدائق والغابات. سألنا الشجرةَ فقالت: «أنا مثلكم أفتقدُ زقزقتها بين أغصانى. ابحثوا عنها فى الغابة الأخرى، وارجعوا لى بخبر عنها». سألنا الزهرَ الذى مررنا به، فقال: «مازلنا ننتظرُ رقصتها التى كانت تجعلنا نمدُّ أعناقنا لنشاركها الرقصَ والتمايل مع النسائم، لولا أن جذورنا مُكبّلةٌ فى الطمى! لكننا رقصنا معها بسيقاننا وأوراقنا. ابحثوا عنها وردّوا إلينا الخبر». بحثنا عنها طويلًا لكى نفتح بابَ القفص، ونحرِّرَ العصفورة الحبيسة فى معتقلها الاختيارىّ. لكن أحدًا لم يعثر على القفص، ولا على العصفورة. كانت تسمعُ نداءاتِنا إليها: (أنْ عودى إلينا!)، فلا تبالى. تسمع الأشجارَ والأزهارَ التواقة إلى صدحها ورقصها، فتهمسُ: (لم يحن وقتُ العودة أيها الأحباء. أمهلونى حتى أطيبَ وأتعافى وأعود إليكم جميلةً مشرقةً كما عرفتمونى).
إنها «شريهان». فراشةُ البهجة التى اختبرها المرضُ ودثّرتها المحنُ، فابتسمتْ فى وجه الصعاب قائلة: (سلامُ الله عليكَ أيها المرضُ، ورحمتُه وبركاته. أهلًا بكِ يا آلام. اليومَ عرفتُ أن الله يُحبُّنى فأرسلَ لى ابتلاءً هائلًا لكى يختبر إن كان حبى له مكافئًا لحبه لى. اصعدْ أيها المرضُ برسالتى إلى الله وخبّره أننى استلمتُ هديته وفرحت بها). شكرتْ ربَّها على مرضِها ورضيت به مثل طفلة تلاعبُ نحلةً، ولا تعلم أن فى لعبها لسعًا ووجعًا. فما كان من النحلةِ إلا أن خجلتْ من نفسها؛ ومنحتها الشهدَ المُصفَّى. حبُّ الناس لها لم يخفُت وكأنها ما تركتنا ساعةً. وفرحنا بعودتها كان بحجم عشقنا لها. عادت إلينا لتمنحنا درس الحياة والقوة والعزم على التحمّل العصى على الكسر. شكرًا للدرس العظيم، وأهديكِ يا صديقتى قصيدتى التى كتبتُها عنك ذات نهار:
«هى الخُلاسية/ التى تركتنا سنواتٍ لكى تُربّى شَعرَها/ فى ضواحى إشبيليّة/ وتغزلُ مع الغجرياتِ فساتينَ واسعةً بكرانيشَ زرقاءَ/ تناسبُ أحزانَ الفلامنكو./ بشرتُها لوّحتها الشمسُ/ والنجومُ سقطتْ/ لتُرصِّعَ جدائلَ جاوزتِ الخِصرَ/ تتماوجُ فى الهواء/ مع قدمين/ تدقّان الأرضَ على إيقاع الكاستينيت./ هى الخلاسيةُ/ ترقصُ فى دوائرَ منذ دهور/ فمتى يعودُ إليها الفرحُ/ كى تُحرّرَ الضفائرَ، من شرائطها؟».
«الدينُ لله.. والوطن لمن ينثرُ البهجةَ على صفحة الوطن».
twitter:@fatimaNaoot
نقلا عن المصرى اليوم