بقلم : يوسف سيدهم
خلال الشهر الماضي كتبت مقالين متتابعين يحملان عنوان هل ستأخذ لقاح كورونا؟ استعرضت فيهما كيفية ترسيخ قناعة كل مصري ومصرية بشأن قرار تعاطي اللقاح أو الامتناع عنه… وبينما كان المقال الأول يحدد الفئات ذات الأولوية لتعاطي اللقاح تبعا لدرجة خطورة التعرض للإصابة بالفيروس وهي الجيش الأبيض ثم كبار السن ثم المرضي بشتي الأمراض المزمنة, الأمر الذي يتضح منه أن المراحل العمرية الأقل والشباب والأطفال ليست علي نفس درجة الإلحاح لتعاطي اللقاح… جاء المقال الثاني ليسلط الضوء علي أن تلك المعايير إنما تنطبق علي كل من يلتزم بلده ولا يغادرها لأي سبب, أما من يزمع التنقل والسفر سواء للعمل أو السياحة أو للدراسة أو المشاركة في سائر الأنشطة كالمؤتمرات أو المعارض أو المنافسات والبطولات الرياضية, فإن الاستعدادات تجري لإرغامه علي تعاطي اللقاح- بغض النظر عن مرحلته العمرية أو درجة المخاطرة إزاء تعرضه للإصابة- وذلك عن طريق إصدار جواز سفر أخضر يثبت تمام تعاطي اللقاح والذي بدونه لا يستطيع الشخص دخول أي بلد مشارك في هذه المنظومة أو حتي لا يستطيع شراء تذكرة سفر سواء برا أو بحرا أو جوا.
وبالرغم من ذلك التحليل ظللت متوجسا بخصوص درجة إقبال المصريين علي تلقي اللقاح لأني لمست مواقف منتشرة عبر شرائح واسعة منهم تتراوح بين عدم المبالاة التي أتصور أنها ناجمة عن محدودية تفشي كورونا في بلادنا مقارنة بالكثير من دول العالم, أو التحفظ والرفض الناجمين عن الارتياب من الأعراض الجانبية التي قد تصيب من يتعاطاه -خاصة الأعراض الطويلة الأمد والمجهولة حتي الآن- فالجميع يدركون أن علي مستوي العالم تظل جميع الاعتمادات التي تم منحها لشركات إنتاج اللقاحات هي في مرتبة علمية تسمي اعتمادات طوارئ حين تملي الظروف الملحة المضي في إنتاج واستخدام اللقاحات بناء علي النتائج قصيرة المدي للاختبارات السريرية ودون انتظار النتائج بعيدة المدي.
ويبدو أن وزارة الصحة المصرية كانت تشاركني ذلك التوجس (!!).. فبالرغم من إدراكها أن هناك أولوية ملحة لتطعيم كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة, ثبت أنها أخطأت في تقدير نسبة إقبال تلك الشريحة من المواطنين لدي استدعائهم لتلقي اللقاح… وباعتباري أنتمي لشريحة كبار السن بادرت منذ فترة بالتسجيل علي الموقع الإلكتروني للوزارة وانتظرت مترقبا إخطاري بتحديد موعد ومكان ذهابي للتطعيم… أقول ذلك لأن ما سأسجله هنا هو تجربتي الشخصية المباشرة وليست نقلا عن أية مصادر أخري.
** تلقيت رسالة مباغتة من وزارة الصحة في السابعة مساء الأربعاء 31 مارس الماضي تخطرني بالتوجه إلي مكتب الصحة المحدد في اليوم التالي مباشرة لتلقي جرعة اللقاح… وأقول رسالة مباغتة لأن المفاجأة تملكتني إزاء الفسحة الضيقة جدا من الوقت بين ورود الرسالة وبين الموعد الذي حددته للذهاب, وتساءلت عما كان سيكون الموقف إذا كنت مرتبطا بأي التزام يتعذر الاعتذار عنه؟!!- وتلك الملاحظة عينها ما سمعتها من كثيرين ممن التقيتهم صبيحة اليوم التالي في مكتب الصحة- والحقيقة أني فشلت في أن أجد تفسيرا تنظيميا معقولا أو مقبولا لذلك المسلك.
** ولأن الرسالة كانت مقتضبة لم تتضمن تحديد الساعة كما لم تذكر مواعيد عمل مكتب الصحة… وحيث إنني أنتمي لشريحة كبار السن ومعتاد علي التبكير في الاستيقاظ فلم أجد مشقة في الوصول إلي مكتب الصحة في السابعة والنصف من صباح اليوم التالي حيث وجدت اثني عشر رجلا وسيدة قد سبقوني- وكلهم من كبار السن- جالسين في نظام وهدوء في انتظار ظهور العاملين في المكتب, وعرفت أن العمل يبدأ في التاسعة صباحا… ولم تمض برهة حتي ظهر أحد العاملين وتأكد من اصطفاف الجميع بترتيب أولوية الحضور وقام بجمع بطاقات الرقم القومي من الجميع -ووقتها كان العدد قد تجاوز الثلاثين -ثم عاد بعد فترة وبدأ توزيع نموذج الإقرار المعد لملئه بواسطة كل شخص والمتضمن بجانب جميع بياناته الشخصية وتاريخ حالته الصحية إقراره بأنه يتعاطي اللقاح علي مسئوليته (!!) وأن الوزارة غير مسئولة عن الأعراض طويلة الأمد التي قد تنجم عن اللقاح… وإمعانا في إعطاء الإقرار صفة الشرعية كان مطلوبا من كل شخص بجانب توقيعه الإقرار وضع بصمته عليه (!!).
** استمر توافد الكثيرين علي المكان حتي ضاق بهم… وما بدأ بجلوس القادمين بنظام وبترتيب الدور تحول قبل الساعة التاسعة إلي اختلاط شديد بين الجميع, وتاه الجالسون وسط تجمهر الواقفين الذين لم يجدوا مقاعد يجلسون عليها… وبدأ يتسلل للجميع الإحساس بتلاشي النظام وضياع ترتيب الدور, وبدأت الأصوات تتعالي مطالبة باحترام أسبقية الحضور, لكن كان واضحا أن أسبقية الحضور إن كانت معلومة لدي العاملين بالمكتب إلا أنها غير ملموسة لدي الجمهور, وذلك لسبب تافه ما كان له أن يفوت المنظمين وهو إعداد وريقات تحمل أرقاما مسلسلة تعطي لكل قادم لتحدد دوره -وذلك النظام بات تقليدا متبعا منذ زمن في جميع البنوك ومؤسسات الخدمات وحتي محال السوبر ماركت, لكنه استعصي علي إدراك وزارة الصحة!!
** تم النداء علي اسمي وذهبت إلي المكتب المحدد, وقامت الطبيبة بإعطائي اللقاح وتسليمي الإخطار الرسمي بتحديد موعد تلقي الجرعة الثانية, وخرجت تاركا المكان لأجد حشودا تملأ الساحة, قدرتها بما لا يقل عن ثلاثمائة شخص ولمست درجة ملحوظة من الهرج والمرج والضجيج والعصبية والزعيق وكان واضحا أن الهدوء والنظام هربا من المكان وأشفقت علي من لم يتمكن من التبكير بالحضور وكان نصيبه تلك الفوضي.
** لم يكن عجيبا بعد ذلك أن تسود وسائط التواصل الاجتماعي ومن بعدها البرامج الإخبارية والحوارية في الإعلام الرسائل المصورة التي عكست هذا الواقع عينه عبر الكثير من مكاتب الصحة والذي يكشف كما أسلفت أن وزارة الصحة أخطأت تقدير مدي استجابة المواطنين لدعوة الذهاب لتلقي اللقاح, كما تركت ثغرة تنظيمية في عدم توزيعها أرقاما مسلسلة علي الحاضرين, مما أدي إلي معاناة الكثيرين ممن ينتمون إلي شرائح كبار السن وأصحاب الأمراض الذين ما كان لهم أن يتعرضوا لتلك المعاناة… الأمر الذي أفسد صورة الجهود الدؤوبة التي تبذلها وزارة الصحة منذ بدء الجائحة.
** وباعتبار أننا نمر بعدد غير قليل من المواقف التي تتقاعس فيها السلطات المسئولة عن حسن تدبير الأمور وتقنع بإصلاح المعوج تبعا لسياسات رد الفعل, الآن نعرف أنه تم إعادة توزيع الأعداد التي سبق استدعاؤها لتلقي اللقاح وإخطار الكثيرين بتأجيل المواعيد المحددة لهم إلي مواعيد لاحقة… وأتمني أن يصاحب ذلك جهودا أكثر دقة في التنظيم من حيث السيطرة علي المجموعات واتباع أولوية الحضور.
*** هذه لقطة لما حدث في مراكز اللقاح وما دفع ثمنه كبار السن… وأرجو أن يتم تداركه تماما قبل الانتقال إلي المراحل العمرية الأصغر وشرائح الشباب التي أخشي إن تعرضت لمثل تلك اللقطة سوف يكون احتجاجها وغضبها أشد قسوة من كبار السن!!