ماجد سوس
القصة بدأت عام ١٩٥٦حينما رفضت الولايات المتحدة الأمريكية تمويل السد العالي بسبب تأميم مصر قناة السويس واستيرادها أسلحة سوفيتيته عن طريق التشيك وبسبب اتجاه مصر نحو الدول الاشتراكية وانضمامها لدول عدم الانحياز ورفضها الانضمام لحلف بغداد الذي تأسس عام 1955 بإيعاذ من الولايات المتحدة للوقوف بوجه المد الشيوعي في الشرق الأوسط . بعدها قررت مصر اللجوء للاتحاد السوفييتي لتمويل السد وبالفعل تم التوقيع على القرض الأول في عام ١٩٥٨ .
في الوقت التي رفضت الولايات المتحدة فيه تمويل السد العالي وافقت على طلب إثيوبيا في عام ١٩٥٧ في إمكانية التعاون معه للقيام بدراسة شاملة لحوض النيل الأزرق واستمرت تلك الدراسة المكثفة للمشروع لمدة خمس سنوات (1958-1964) وانتهت تلك الدراسة بتقديم تقريراً شاملاً عن الهيدرولوجيا ونوعية المياه، شكل سطح الأرض، والجيولوجيا والموارد المعدنية، والمياه الجوفية، استخدام الأرض، وأخيراً الحالة الاجتماعية والاقتصادية لحوالي 25 حوض فرعي وأعلنت الدراسة من خلال 7 مجلدات ثم قام المكتب الأمريكي بتحديد 26 موقعاً لإنشاء السدود أهمها أربعة سدود على النيل الأزرق.
والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا الآن، أين كانت مصر من الستينيات من هذا الملف الخطير لماذا لم تقترب مصر من أثيوبيا وتوطد علاقتها بيها بإبرام اتفاقيات اقتصادية وتجارية والتعاون في شتى المجالات حتى تكسب ثقتها فمصر هي أقل دولة لديها استثمارات في إثيوبيا بينما إسرائيل وتركيا وقطر والإمارات والسعودية جميعهم وغيرهم اتجهوا نحو إثيوبيا للاستثمار، وأين وزراء الري في الحكومات المصرية المتعاقبة من هذا الامر الخطير الذي يمثل أمناً قومياً لمصر.
والذي يثير العجب أنه من المفترض إن مصر تعلم جيداً مكانة إثيوبيا كدولة المنبع الرئيسية لنهر النيل ، فهناك مصدران للنيل، الأول الهضبة الإثيوپية وهي تغزي 85% من إيراد نهر النيل، والمصدر الثاني هو هضبة البحيرات الاستوائية وهي تغزيه ب 15% فقط .
حصة مصر من مياه النيل 55 مليار متر مكعب وقد أبدت مرونة مع الجانب الإثيوبي حينما طلبت أن لا تقل حصتها في فترة ملئ الخزان عن 40 مليار متر مكعب لكن أثيوبيا تصر على الرفض كما أن استخدام مصر للمياه المُخزّنة في بحيرة ناصر سيكون مؤقتاً لأن انخفاض مستوى المياه في البحيرة قد يؤدي إلى تشقق واحتراق طوربيدات السد وتكلفة إصلاحها باهظة لذا طلبت مصر من إثيوبيا التعهد بزيادة كمية المياه الواردة لو انخفضت بحيرة السد العالي عن ارتفاع معين يتم الاتفاق عليه وأيضاً رفضت أثيوبيا.
في بداية بناء السد كانت المعلن إن سعة الخزان 14 مليار متر مكعب، لكن الوضع الحالي هو أن أثيوبيا تشتغل على أساس سعة 74 مليار وده تقريبا حصة مصر والسودان مجتمعة من النيل. وبعيد عن السد أساسا مصر عندها أزمة حقيقية في المياه العذبة، حالياَ نصيب المواطن تحت خط الفقر المائي. كما أن هناك دراسات أكدت من مصر قد تخسر بسبب سد النهضة ما يقرب من 300 مليون دولار سنويا من الكهرباء.
هل الحل العسكري هو الذي سينهي الأمر، كما يصيح البعض، لا أعتقد فهذا كلام عنتري لا أتوقع أن تنزلق إليه القيادتان المصرية والسودانية لعدة أسباب فبعيداً عن تكلفة الحرب فقد بدأت إسرائيل في عام 2019 ببناء منظومة دفاع جوي حول سد النهضة عقب شراء إثيوبيا هذه المنظومة المضادة للطائرات هو الوحيدة في العالم القادرة على إطلاق نوعين مختلفين من الصواريخ من قاذفة واحدة والتي يتراوح مداها ما بين 5 و50 كم. كما أن ضرب السد بعد الملء قد يسبب كارثة سواء لدول المنبع أم المصب ومن بينهم مصر فإذا ما تعرض السد للتدمير أو القصف ستمتد آثاره الكارثية إلى مصر والسودان، كما سيؤدى لإحداث خلل بيئي، ولتحريك النشاط الزلزالي في المنطقة، نتيجة الوزن الهائل للمياه المثقلة بالطمي والمحتجزة أمام السد، وسيبلغ العجز المائي لمصر 94 مليار متر مكعب عام 2050، أي سيحرم مصر من مياه النيل كاملة لمدة عامين، حيث تبلغ حصة مصر من مياه النهر 55 مليار متر مكعب سنوياً.
كل هذا بخلاف التوتر السياسي والدولي الذي ستقع مصر فيه إذا فكرت في ضرب السد وخاصة أن الرئيس بايدن ألغى قرار الرئيس ترامب بربط المساعدات الأمريكية لإثيوبيا بحل مشكلة سد النهضة وأظهرت الإدارة الأمريكية وقوفها مع إثيوبيا أو على الأقل على الحياد بعد أن كانت الإدارة السابقة تعلن وقوفها مع مصر علنياً وهذا معناه عن أول من سيقف ضد مصر في هذه الحالة هي الولايات المتحدة بخلاف الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي.
الحل في أهمية وجود تغييرات جذرية للسياسات الزراعية في مصر، مثل التقليل من زراعة المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه، والاعتماد على تكنولوجيا حديثة في الري الزراعي بالرش والتنقيط وإعادة النظر في عقود الشركات الخليجية في توشكى للزراعات المستهلكة للمياه . والتركيز على محطات تحلية مياه البحر مع معالجة مياه الصرف الصحي وتوجيهها للزراعة. أخيرا إعادة النظر في الدراسات العلمية والفنية لإمكانية مشروع ربط النيل بنهر الكونغو رغم تكلفته العالية ولكنه قد يكون الحل الأمثل على المدى البعيد كل هذا مع وعي المواطن لأهمية ترشيد المياه.
لذا أرى أن الخط الأحمر في موضوع سد النهضة يبدأ من الداخل حين يعتبر المواطن المصري أولا ان العبث بمياه النيل هو بداية هذا الخط .