مدحت بشاي
لقد شهدت صناعة فن المقال النقدى وأساليب إعداده وإخراجه تطورًا كبيرًا فى العقود الأخيرة من القرن الماضى، فبات على الكاتب إدراك طبيعة المتلقى والمستهدف من المقال، وإذا ما كان المقال موجهًا للنخبة أم لقرائه من الجمهور العادى، وإدراك المعايير النقدية من مكان وزمان لآخر ومن ثقافة لأخرى..
ولابد من تمكين المتلقى من الوصول إلى المعلومات عن طريق التفكير، فلا يُكتفى بذكر الحقائق بل إعمال العقل للاستدلال والربط والنقد، بحيث يستدل المتلقى بنفسه على رجاحة الأفكار وصحة المعلومات وأهمية الرأى المقدم عند عرض قضية مهمة للمناقشة، فضلًا عن أهمية استخدام المنطق فى الإقناع.
لا شك أن بناء المقال النقدى فى عصرنا الحالى بات يتطلب جدارة عالية فى تحريره ويتوجب على المحرر السيطرة على سيل معلوماته ودقة ترتيبها وامتلاك الكثير من المهارات الخاصة، ففضلًا عن استخدام الصياغة اللغوية المناسبة للموضوع أو الظاهرة أو القضية التى يتم تناولها، فإن القدرة على الإيجاز أحيانًا والإسهاب فى أحيان أخرى وإدراك ملكة التشويق من التمهيد حتى الإعلان عن المعالجات والأطروحات الإبداعية فى النهاية هى وأدوات أخرى أصبحت من الأهمية بمكان إلى حد الوصول بالمقال إلى أن يكون بمثابة عمل فنى وإبداعى..
فى الثمانينيات من القرن الماضى كانت هناك حملةُ نقدٍ منظمة من بعض الصحف والجرائد على الكاتب والقصصى الكبير «د. يوسف إدريس» عقب تركيزه على المقال الصحفى وبانصراف نسبى عن إبداع الرواية والقصة، مُتهِمين إياه بالتخلى عن الفن والاتجاه إلى الحديث التقليدى- من وجهة نظر منتقديه- فى قالب الصحافة. ومن جانبه كان «يوسف إدريس» يصرخ فيمَن يتهمه قائلًا: «يا ناس، أتريدون من رجل يرى الحريق يلتهم بيته أن يترك إطفاءه لآخرين؟!»، متعجبًا من منتقديه، فهو يرى أن من واجبه تتبُّع الأمراض التى أصابت المجتمع المصرى، ومن ثَمَّ إيجاد دواء لها، ويرى أن المقال هو خير وسيلة لذلك، أو ما سمَّاه «المفكِّرة»، التى لخَّص فيها انطباعاته عن هذه الأمراض.
وكان «إدريس» يؤكد أنه بكتابة تلك المقالات يدافع بشكل يومى عن وجوده اليومى، وعن كل قيمه وما كان يؤمن به.. بل كان يرى فى كتابتها ذودًا عن عِرضه وشرفه وشرف أبناء وطنه.
يقول «إدريس»: أنا لا أفعل هذا خارج دائرة الكتابة، فأنا لم أنضم إلى حزب ولا كوَّنت تنظيمًا، أو هاجرت إلى فرنسا أو إنجلترا، وإنما أنا قاعد فى دارى القاهرية إلى الأبد أحاول بكل ما أملك من جهد أن أقوم بدورى ككاتب، وإذا كنتم أنتم تسمونها «مقالة صحفية» فهذه فى الواقع تسمية خاطئة تمامًا، باعتبارها تكرارًا لمفهوم مقالات فترة الثلاثينيات والأربعينيات، التى رسَّخت لدى القارئ فكرة عن أن المقالة عمل عقلانى محض، لا دخل للعاطفة أو الوجدان أو الفن فيه، وإنما هى «أفكار» مرتبة ترتيبًا منطقيًّا، كطريقة حل تمارين الجبر والهندسة، تؤدى إلى نتيجة. أنا أكتب كتابة انطباعية، والانطباعية مدرسة حتى فى الفن التشكيلى، فأنا أترك الواقع ينطبع على مخيلتى ويرسم صورة قد تكون رهيبة وقد تكون متناقضة ومضحكة، ولكنها تحتوى على كل عناصر العمل الفنى الانطباعى، وأحاول أن أوصل هذا الانطباع إلى الآخرين عن طريق ما سمَّيته «المفكِّرة».
هى إذن ليست مثل «مقالات» العقاد، أو طه حسين أو سلامة موسى، بل فى حقيقة الأمر ليست مقالات بالمرة لها أولًا وثانيًا وثالثًا، ثم استنتاج أخير على طريقة الأكاديميين أو البحوث والمقالات الأكاديمية، ولكنها نوع من الفن الانطباعى المكتوب قد يملك صفات القصة ولكنه ليس قصة، وبعض خصائص الشعر ولكنه ليس شعرًا، وفيه ملامح من المسرح ولكنه ليس مسرحًا، وإن احتوى عناصر كثيرة من عناصر الدراما.
رحم الله كاتبنا الكبير، فقد كانت كل مقالات «المفكرة» تنويعات إبداعية تطاول إبداعاته القصصية والمسرحية والدرامية ورسائل مستقبلية تحمل رؤى مصرية وطنية بديعة..
medhatbeshay9@gmail.com
نقلا عن المصرى اليوم