يوسف سيدهم
تنشر وطني في هذا العدد حلقة ضمن سلسلة من دفتر أحوال الوطن تحت عنوان ميدان وشارع سليمان باشا- طلعت حرب حاليا تتناول الثروة العقارية والملامح الجمالية والتاريخية لواحد من محاور الحركة الرئيسية في منطقة وسط القاهرة, هذه المنطقة التي تزخر بمحاور عديدة مماثلة لشارع سليمان باشا كل منها يتميز بما يرتفع علي جانبيه من مبان تعكس فنا معماريا مرموقا وتفاصيل مبهرة لطرز معمارية أصيلة, علاوة علي علامات مميزة لأماكن لها تاريخ سياسي أو ثقافي أو اقتصادي أو اجتماعي أو فني تشكل في مجموعها جزءا عزيزا من ذاكرة مصر وتاريخها ينتمي إلي أيام الزمن الجميل حين كان يشار إلي تلك البقعة من منطقة وسط القاهرة باعتبارها تنافس -إن لم تكن تتفوق علي- عواصم دول أوروبا وفي مقدمتها العاصمة الفرنسية باريس والعاصمة النمساوية فيينا وغيرهما.
لن أخوض في تفاصيل المادة التاريخية الثرية التي يستضيفها هذا العدد من وطني لأترك للقارئ شغف قراءتها والاستمتاع بها تاريخيا والتجول عبر علاماتها المميزة مثل عمارة جروبي, مقهي ريش, مسرح وسينما راديو, عمارة يعقوبيان, سينما مترو, سينما ميامي, عمارة عمر أفندي… وهي جزء من رصيد أوفر حسبما سمحت به مساحة النشر, مستخرج من مراجع تاريخية قيمة أوردتها المادة, وهي: القاهرة الخديوية للأستاذة الدكتورة سهير زكي حواس, والقاهرة- تواريخ مدينة لنزار الصياد, وشوارع لها تاريخ لعباس الطرابيلي.
إنما ما دعاني اليوم لتسليط الضوء علي هذه المادة والإرث العظيم الذي تنتمي إليه هو واقعها الحالي وما آلت إليه من حالة متناقضة أفضل ما ينطبق عليها هو المثل الشعبي من برة هاللا هاللا.. ومن جوة يعلم الله!!… ومن لم تقده ظروفه لارتياد مباني ومنشآت منطقة وسط القاهرة أو القاهرة الخديوية سيتصور أنني أقسو علي الجهود المتتابعة التي بذلت عبر العقود الثلاثة الماضية لإقالة المنطقة من عثرتها وإزالة ما علق بها من إهمال مخيف مدمر طوال ستين عاما أو أكثر… تلك الجهود التي بدأت علي استحياء بطلاء واجهات مبانيها بما يطلق عليه فرشة جير!!- وللأسف لم يكن طلاء إنما كان لحوسة!! لتبدو للناظرين عن بعد كأنها تم تجديدها بينما شاغلوها لم يخف عليهم المستوي الهزيل والارتجال الذي تم بواسطته ذلك الطلاء… أما المهندسون العارفون بأصول العمل ومواصفاته فكانوا يبكون علي تشويه واحدة من أجمل وأقوي طبقات البياض الخارجي التي عرفتها العمارة المصرية في ذلك العصر- النصف الأول من القرن العشرين- وأكثرها مقاومة لعواهن الزمن والعوامل الجوية وهي بياض الحجر الصناعي.. ذلك البياض الذي تتجانس مكوناته القوية بكامل سمكه ولا يحتاج لتجديد شبابه وإعادة رونقه سوي طرق سطحه لإزالة ما علق به من أتربة وآثار جوية وكشف لونه وملمسه الأصليين… فما بالنا ونحن نغطي ذلك الثراء بقشرة سطحية من الدهان الرخيص الذي سرعان ما يتشقق ويتآكل ويسقط تحت تأثير العوامل الجوية!!… هذا الذي حدث في ظل المحاولات الأولي لتجميل مباني وسط القاهرة كان يعد جريمة بكل المقاييس المعمارية تعكس تسرعا وجهلا, أتصور أنه لا يتفوق عليها سوي كارثة طلاء التماثيل البرونز للأسود الأربعة لكوبري قصر النيل بالطلاء الأسود!!!
لكن لحسن الحظ شهدت منطقة وسط القاهرة خلال السنوات القليلة الماضية حركة تصحيح راشدة ومدروسة تعكس غيرة حقيقية وفهما هندسيا لطرز وجماليات مبانيها تولت إعادة تجديد واجهاتها الخارجية وإبراز عناصرها المعمارية ومختلف المواد التي استخدمت في بنائها وتشطيبها علاوة علي عناصرها المتنوعة من كرانيش وزخارف وحليات وأعمال معدنية وحديد مشغول وغيرها… بحيث نجحت تلك الجهود الدؤوبة في إنقاذ هذه المباني وتقديمها في صورة جميلة تسر الناظرين وتلبس منطقة وسط القاهرة ثوبا جديدا يجمع بين العراقة والأصالة والجمال الخارجي.
ولأن المثل يقول: الحلو مايكملش.. لعلكم لاحظتم في السطر السابق أنني أقول الجمال الخارجي.. ولعل ذلك ما يفسر عنوان هذا المقال.. فحتي العمل اللافت الناجح الذي طال مباني الشوارع الرئيسية بمنطقة وسط القاهرة كان مقصورا علي واجهاتها الخارجية دون أن يمتد إلي أي من عناصرها الداخلية أو مرافقها التي تركت تئن تحت وطأة السنين, وحالتها مهملة متهرئة كئيبة لم تمتد إيها جهود الصيانة أو التجديد أو حتي الترميم منذ أكثر من ستة عقود.. وإذ أسجل ذلك, أسجله من موقع من يعرف سائر التفاصيل الداخلية للأوضاع المؤسفة التي آلت إليها تلك المباني بفضل دوام تردده عليها ومعايشته لجميع عناصرها ومرافقها… ولست أقسو علي من قاموا بجهود التجميل الخارجي أو أتهمهم بالتقصير لأني أعرف أنهم كانوا مكبلين بالميزانيات والموارد التي لم تسمح سوي بتحسين الشكل الخارجي تاركة المضمون الداخلي إلي حين ميسرة!!
ولكن, هل هناك أمل حقيقي لأن تأتي هذه الميسرة؟… إنني هنا أعود لأفتح ملفا مهما خطيرا مسكوتا عنه هو ملف إيجارات الأماكن القديمة والذي من شأنه إذا تصدي له المشرع -والبرلمان- أن يعيد عدالة مفقودة ويوفر موارد حقيقية تقدر أن تنتشل هذه المباني من الداخل ليتجدد شبابها فعلا وليست ثيابها الخارجية وحدها!!