د. نادر نور الدين محمد
دارت مناقشات كثيرة حول جدوى تحلية مياه البحر مقارنة بمقترح دراسة نقل جزء يسير من مياه نهر الكونغو إلى مياه نهر النيل، وظن البعض أن مياه البحر المالحة ذات قدرات غير محدودة فى التحلية ونبع لا ينتهى بينما الحقيقة غير ذلك. الأمر وصل إلى مقارنة البعض نهر ليبيا العظيم والذى اعتبرته الأمم المتحدة واحدًا من أعظم مشروعات القرن العشرين، وأن تحلية مياه البحر كانت أجدى وأقل تكلفة وهذا أيضا غير صحيح. وعلى الرغم من أن البحار والمحيطات تمثل 97.5% من إجمالى مياه العالم ولا تمثل المياه العذبة أكثر من 2.5% فقط ولا نستطيع الوصول إلا إلى 0.3% فقط من هذه المياه العذبة، إلا أنها مازالت كافية لعموم البشر، ولكن هناك سوء فى التوزيع يعطى وفرة مائية فى مناطق وندرة فى مناطق أخرى والمياه العذبة ثابتة منذ أكثر من ألفى عام وقت أن كان عدد سكان العالم 3% فقط من التعداد الحالى.
خلقت مياه البحر لتكون هى الحوض الأعظم لامتصاص الانبعاثات الغازية الكربونية الناتجة عن تنفس الكائنات الحية وكافة الأنشطة للكائنات الحية، ويشاركها جليد القطبين والغابات. المحيطات والبحار أيضا تقوم بامتصاص أكثر من 95% من أشعة وحرارة الشمس التى تصل إلى كوكب الأرض وتجعل الحياة على الكوكب محتملة، بالإضافة إلى أنها مصدر لكل المياه العذبة فى العالم بسبب كميات البخر الهائلة من مسطحها الكبير لتعود إلينا أمطارًا وجليدًا تمثل منابع كل الأنهار فى العالم. وتمثل الأمطار أيضًا أساس الزراعة، حيث تمثل الزراعة على الأمطار أكثر من 80% من زراعات العالم بينما لا تمثل الزراعات المروية أكثر من 20% فقط فى المناطق الجافة معدومة الأمطار والتى تحتوى على مياه جوفية أو أنهار وبحيرات عذبة.
.. لا تعتبر مياه البحار مصدرًا غير محدود لإنتاج المياه العذبة ومازالت كمية المياه المحلاة المنتجة عالميًّا لا تزيد على 0.6% فقط من إجمالى المياه العذبة وبحجم يزيد قليلا عن 25 مليار م3 فى جميع دول العالم أى أقل من نصف حصة مصر من مياه النيل!. وتعتبر المملكة العربية السعودية هى الأعلى إنتاجًا فى العالم بكمية 6.5 مليار م3 سنويًّا تليها الولايات المتحدة بكمية 6 مليارات ثم الإمارات بحجم خمسة مليارات، ثم إسبانيا بنحو 2.5 مليار م3 والكويت بنحو 2 مليار ثم اليابان وليبيا وكوريا وقطر وإيطاليا بنحو نصف مليار م3 سنويًّا. من القائمة السابقة يتبين أن تقنية تحلية مياه البحر هى تقنية الدول الغنية والبترولية ولا توجد دولة نامية أو فقيرة دخلت مجال تحلية مياه البحر، لأنها تقنية مرتفعة التكاليف ومحدودة الإنتاج بالإضافة إلى أن فلسفة إنتاجها هى «الحفاظ على حياة البشر وليس لإحداث تنمية»، ولذلك تذهب 57% منها للشرب والاستخدامات المنزلية، و23% للصناعة ثم 18% لقطاع إنتاج الطاقة ولا يذهب للقطاع الزراعى سوى 1% فقط من مياه التحلية بسبب ارتفاع تكلفتها وعدم الجدوى الاقتصادية، كما أن التحلية كثيفة الاستهلاك للكهرباء، حيث تمثل الكهرباء 44% من تكاليف الإنتاج وبالتالى فهى تتطلب دولًا ذات وفرة رخيصة فى إنتاج الكهرباء، ولا تكلف الأغشية أكثر من 5% فقط من إجمالى التكلفة. وإجمالًا فإن تقنية التحلية هى تقنية مرتفعة التكاليف، خاصة بالدول الغنية والبترولية وكثيفة الاستهلاك للكهرباء، وتتطلب دفن النفايات الناتجة عن التحلية فى أعماق الصحارى ولها تداعيات بيئية عديدة، وتزيد من الانبعاثات الغازية والاحترار العالمى ولها مخاطر عديدة على الثروة السمكية والأحياء البحرية، بالإضافة إلى العديد من التحفظات على تأثيرها على بعض الوظائف الحيوية للكُلى فى الإنسان وتداعياتها الصحية، بالإضافة إلى تسببها فى خلل اجتماعى بسبب ارتفاع تكاليفها على الفقراء ولا بد من دعم تكاليف توصيلها للمنازل.
أما عن مشروع حقن مياه نهر الكونغو فى مياه نهر النيل واعتراض العديد من الباحثين على الأمر سواء بعلم أو بدون علم بسبب تكاليف تدفع مرة واحدة عند توصيل النهرين مثلما حدث فى حفر قناة السويس، فى حين تتطلب التحلية مصاريف صيانة دورية وقطع غيار تتجاوز 7% من تكاليف الإنشاء ثم إحلالًا وتجديدًا كاملين لمحطات التحلية كل 50 سنة. أى أن تكلفة نقل مياه الكونغو تتم لمرة واحدة فقط ثم تعطيك مياهًا عالية النوعية مدى الحياة. الأمر الأهم أن الفجوة المائية المصرية ستصل إلى 75 مليار متر مكعب فى عام 2050 حين يصل عدد سكاننا إلى 150 مليون نسمة، وبالتالى نحتاج مصدرًا غزيرًا يستطيع أن يوفر ولو نصف هذه الكمية أى 40 مليار م3 سنويًّا ونستطيع أن نتعايش مع باقى العجز، فى حين أن تحلية مياه البحر لن تعطى لمصر أكثر من 5 مليارات م3 مكعب فى عام 2050 كما هو مستهدف و3 مليارات فى عام 2030، وتتطلب إنشاء عشرات من محطات التحلية بتكاليف مليارية، بعد أن استغللنا كل مياه المخلفات بحجم 20 مليار م3. هذه هى القضية وهذا هو السؤال: ما بديل ربط نهر الكونغو بنهر النيل قبل عام 2050 يمكنه أن يوفر لمصر 40 مليار م3 سنويًّا بعد معالجة كل أنواع مياه المخلفات واستخدامها؟!. فهندسيًّا لا يوجد مستحيل حتى وإن قاوم بعض الجيولوجيين أمرًا قد لا يتوفر مستقبلًا، بل ينقذ مليارات وملايين من مياه الأنهار التى تلقى فى المحيطات والبحار بينما يمكن أن يموت الناس عطشًا وقحطًا، وكأن المياه المالحة أولى بالمياه العذبة من البشر.