كمال زاخر
5 - مدارس الأحد ... الدور والمسارات {1 من 2}
فى تتبعنا لمسارات محاولات الخروج ـ الجادة والمتعثرة بآن ـ من نفق عصورنا الوسيطة نتوقف ملياً عند تجربة "مدارس الأحد"، الطيف الثالث من تلك المحاولات، وأظنه الأبقى والأقوى، وهى تجربة تستحق بل لعلها تستوجب التوقف والفحص بعد مرور اكثر من مائة عام على ولادتها كخبرة قبطية، فاعلة ومحورية.
اختمرت فكرة مدارس الأحد فى ذهن الرعيل الأول المؤسس للمدرسة اللاهوتية، الكلية الاكليريكية فيما بعد، بعد أن اكتشفوا الفراغ المعرفى الذى عانوا منه وهم يؤسسون لهذا الصرح الدراسى الكبير. والذى نعرض ابرز ملامحه هنا.
والتتبع التاريخى هنا يستند الى مرجع كنسى صدر مؤخراً ـ 2018 م ـ كتاب "تاريخ مدارس الأحد فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى مائة عام"، والذى اصدرته لجنة احتفالية مئوية مدارس الأحد التى شكلها قداسة البابا تواضروس الثانى، برئاسة الأنبا دانيال اسقف المعادى، وقد اشار البابا فى تقديمه للكتاب إلى الدور العمدة الذى قام به الاستاذ الدكتور سينوت دلوار "الذى اهتم بتجميع المصادر والمراجع ليس من الكتب فقط ولكن من الشخصيات التى سجلت بالصوت والصورة ساعات وساعات تحكى فصول ومشاهد فى هذه القصة الممتدة بنعمة المسيح إلى أجيال وأجيال المستقبل".
اللافت أن الفكرة جاءت من اراخنة ذاك الزمان، وقد لفحتهم رياح الإرساليات وهى تحمل أدوات حداثية عركها الغرب، فيما تخيم اصفاد الإنغلاق على ابوابنا، جراء الانقطاعات المعرفية المتتالية التى سبق وأشرنا إليها.
كانت الكنيسة القبطية تقاوم باصرار عوامل الفناء، بعد أن غابت عنها لغتها اليونانية ثم القبطية، كلغة حياة، وثقافة، لتبقى فقط فى كتب صلواتها، وخدمتها الليتورجية، فيما صارت الأديرة، أو ما تبقى منها، اقرب إلى الأطلال، تغلق ابوابها على نفر من كهول الرهبان، وقد انقطعت بهم السبل، إلا قليلاً، يطرق المستشرقين أبوابها، ويستنزفون باحتيال ما تطوله اياديهم من مخطوطات، يودعونها متاحف ومكتبات الغرب. ورب ضارة نافعة.
كانت البدايات متعثرة ـ بحسب رصد كتاب "مدارس الأحد فى مائة عام" ـ مع المدرسة التى انشأها البابا بطرس الجاولى (1809 - 1852 م.) لتعليم اللاهوت لشباب الأقباط، بمساعدة كنيسة انجلترا، ولم تستمر طويلاً وأغلقت ابوابها، حتى جاء البابا كيرلس الرابع (1853 - 1862 م.) ويعيد افتتاحها فى المقر البابوى ويضع لها نظام صارم يعد من خلالها كوادر تصلح ليسند اليها تأسيس مشروعه بانشاء مدرسة اكليريكية، لكنه يرحل عن العالم بشكل مفاجئ، فيتوقف المشروع، الذى يعيد البابا كيرلس الخامس احياءه بعد سنوات قليلة ـ 1875 ـ لكنها تتعثر مجدداً، ومع اصرار البابا كيرلس الخامس (1874 - 1927 م.) على قيامها يعاود المحاولة وينجح فى تأسيسها 1893، حين قدم الاستاذ حنا باخوم مدير المدارس القبطية مشروع المدرسة الإكليريكية إلى اللجنة الملية التى شكلها قداسة البابا كيرلس الخامس آنذاك، ويتم الموافقة على مشروعه، وتفتتح المدرسة وينخرط فيها اثنا عشر طالباً كان ابرزهم "حبيب جرجس". الذى يتخرج فيها، ويتولى تدريس علم اللاهوت، إلى جانب الشماس الخاص للأب البطريرك، وفى عام 1918 يتولى نظارة المدرسة الإكليريكية، التى تشهد على يديه تطوراً اصلاحياً فارقاً، سواء فى اعداد الطلاب وكفاءة المدرسين واضافة مواد دراسية تتضمن العلوم الإنسانية؛ المنطق والفلسفة والتربية وعلم النفس، واللغات ذات الصلة بمدارات الدراسة كاليونانية والعبرية.
واستقرت المدرسة بعد طول ترحال فى مقر ثابت لها فى منطقة مهمشة، فى مبنى يضم اماكن لتحصيل الدروس وجناح لإقامة الطلبة اقامة معيشية كاملة (داخلية)، يضم غرف للنوم وقاعات للطعام و القراءة، والحق بها كنيسة خاصة بها، ونجد انفسنا بهذا أمام ترجمة لخبرة التلمذة الحياتية لتلاميذ المدرسة لمدرسيها، وهو ما انعكس على تكوينهم واصقال خبراتهم الكنسية.
ويذكر للمدرسة فضل ادخال الكهرباء لمنطقة مهمشة والشرابية عطفاً على ادخالها للمدرسة ومرافقها.
ومع استقرار المدرسة التى تحول اسمها إلى كلية اللاهوت القبطية، ثم يستقر على اسم "الكلية الإكليريكية"، تم انشاء القسم الجامعى بها "الذى بدأ نهارياً عام 1942، بأربعة طلاب اختارهم الارشيدياكون حبيب جرجس ليكونوا نواة للتدريس فى مدرسة الثالوث المقدس اللاهوتية بأديس أبابا ـ اثيوبيا ـ مع الاستاذ حافظ داود ـ القمص مرقس داود كاهن كنيسة مار مرقس بشبرا فيما بعد ـ وكان ابرزهم "سعد عزيز" (المتنيح الأنبا صموئيل)، "وهيب زكى (المتنيح القمص صليب سوريال)، "المهندس يسى حنا".
فى عام 1945 يتم انشاء القسم الليلى الذى يشرع ابوابه لخريجى الجامعات من مختلف الكليات، ويجد اقبالاً ملحوظاً من الشباب، ويشكل خريجو هذا القسم نقلة نوعية فى خدمة الكنيسة، يذكر كتاب "مدارس الأحد فى مائة عام" ابرزهم؛ قداسة البابا شنودة الثالث، الدكتور سليمان نسيم، الأنبا اثناسيوس مطران بنى سوف الأسبق، الأنبا يؤأنس اسقف الغربية السابق.
ويورد الكتاب قائمة موجزة تضم بعض أبرز خريجى الكلية ـ بقسميها ـ فى تلك المرحلة المبكرة تضم :
1910 ملطى سرجيوس (القمص مرقس سرجيوس خطيب ثورة 1919)
1918 القمص ابراهيم لوقا (كنيسة مار مرقس مصر الجديدة)
1923 يسى عبد المسيح (امين المتحف القبطى الأسبق)
1925 راغب عطية (القمص ابراهيم عطية مدير الكلية فيما بعد)
1927 إدوار يسطس (الأنبا ديسقورس مطران الموفية الأسبق)
1938 فؤاد باسيلى (القمص بولس باسيلى بشبرا)
1938 حافظ داود (القمص مرقس داود)
1940 وهيب عطا الله (الأنبا غريغوريوس اسقف البحث العلمى والدراسات القبطية)
1943 الأنبا باسيليوس (مطران القدس الأسبق)
1950 د. موريس تاوضروس (استاذ اللاهوت الكتابى بالكلية)
يرحل الارشيدياكون حبيب جرجس 1951، عن العالم، وتبدأ الإكليريكية مرحلة جديدة، لكن علينا قبل أن نطالع التطورات اللاحقة، نتوقف لسطور عند مرحلة التكوين والتأسيس، والتى لم تكن وردية كما قد يخالها البعض، وربما نضع ايدينا فيها على جذور صدامات واشكاليات اليوم.
فقد تجمعت عدة مؤشرات لفتت نظر اراخنة وبطريرك سنوات النشأة، إلى الفراع التعليمى الذى تعانيه الكنيسة، والذى ادى الى افتتاح المدرسة اللاهوتية وليس بها مدرس للاهوت، عصب التعليم المسيحى، حتى ان المجلس وقتها "عين قساً انجليزياً من الكنيسة الانجليكانية لتدريس اللاهوت فى المدرسة، وعارض المجمع المقدس برئاسة الأنبا يوأنس قئمقام البطريرك فى ذلك الوقت هذا التعيين"، "كما عارض تخصيص مبلغ لإرسال بعثات من المدرسة إلى الخارج لدراسة اللاهوت وغيره من المواد لرفع المستوى العلمى لأساتذة المدرسة".
ونتابع رصد كتاب "مدارس الأحد فى مائة عام" لهذه الأزمة "فلمدة أربع سنوات لم يوجد بالمدرسة مدرساً للدين مكتفية ببعض الكتب التى كان بوزعها ناظرها الأول الأستاذ يوسف منقريوس على الطلبة ليقرأوا فيها أمامه حتى عام 1896م، حينما قررت اللجنة الملية تعيين القمص فليثاؤس إبراهيم معلماً للاهوت، غير أن كير سنه ومرضه لم يمكنه من الحضور للمدرسة سوى خمسة عشر يوماً، ولم يستطع الاستمرار فى مهمته أكثر من هذا، غير أن العلاقات كانت قد توطدت بينه وبين تلميذه خبيب جرجس، فعهد إليه بمساعدته فى تدريس الدين للطلبة المستجدين فى ذلك الوقت، وبعد مرض القمص فيلوثاؤس رشحت جمعية التوفيق القبطية المركزية المُعلم عياد مرزوق وهو من المنشقين على الكنيسة القبطية، ثم رشحوا الخواجة تادرس حنا من الأمريكان لتدريس الدين، ولكن البابا البطريرك رفض هذه الترشيحات، وعهد إلى الأستاذ يوحنا باخوم بترشيح مدرس آخر للدين، فاختار القمص يوسف حبشى فى 23 نوفمبر 1897م.، لكنه كان ضعيفاً فى اللغة العربية ومعلوماته فى العقيدة الأرثوذكسية قليلة بسبب نشأته فى روما، فكان ينقل مبادئ التعليم المسيحى من كتب اجنبية مما أدى إلى انقطاعه عن المدرسة بعد أقل من عامين فى يناير 1899م.، فقررت اللجنة الملّية إعفاؤه وتعيين الطالب حبيب جرجس مدرساً للعلوم الدينية لكل فرق المدرسة فى 8 مايو 1899م.".
على أن أزمة ندرة المراجع المتاحة التى تقدم طرحاً أرثوذكسياً للعلوم اللاهوتية ظلت قائمة فى مواجهة الاستاذ حبيب جرجس، فاتجه للبحث فيما هو متاح من مراجع خارج دائرة الكنيسة القبطية الارثوذكسية، ويذكر أن كتابه "اسرار الكنيسة السبعة"، كان مرجعه الأساسى كتاب "الأنوار فى الأسرار" للمطران جراسموس مسرة مطران اللاذقية للروم الأرثوذكس، إضافة إلى اعتماده على مقال عن الكهنوت نشر بادبيات الكنيسة الإنجليكانية، راجع لمزيد من التفصيل كتاب "القديس اثناسيوس الرسولى فى مواجهة التراث الدينى غير الأرثوذكسى" ـ الطبعة الأولى مايو 1985، للدكتور جورج حبيب بباوى.
كان من الطبيعى أن ينعكس هذا على التكوين المؤسس لخريجى تلك المرحلة بدرجات متفاوتة، فضلاً عن تأثير الإرساليات والجمعيات التى اشتبكت مع التعليم العام والكنسى فى هذه الحقبة التى تغطى اكثر من نصف قرن، وربما يقدم لنا هذا بعض من اسباب الصدام اللاحق الذى نشب بين بعضهم وبين من اقتربوا من المنتج الآبائى فى لغته اليونانية، فعكفوا على ترجمته وطرحه، ربما.
وكان من الطبيعى أن تفكر الكنيسة فى الانتباه للأطفال والنشء حتى يعالجوا اختلالات الانقطاع المعرفى الذى عاشوها فى تأسيس الكلية الإكليريكية.
ومازال للطرح بقية.