فاروق عطية
دعي اللورد ملنر الوفد المصري للمجيئ إلى لندن للتفاوض. وصل الوفد المصري في 5 يونيو 1920م واستقبلهم المصريون في لندن. جرت أول مقابلة بين الوفد واللورد ملنر في 7 يونيو، وأسفرت المفاوضات عن مشروع للمعاهدة بين مصر وإنجلترا قدمه اللورد ملنر إلى الوفد فرفضه الوفد، ثم قدم الوفد مشروعا لكن ملنر رفضه وتوقفت المفاوضات. استؤنفت المفاوضات مرة آخرى وقدمت لجنة ملنر مشروعا يشمل بعض التعديلات الهامشية دون تغيير في الجوهر، وانتهي الأمر باقتراح الوفد عرض الأمر على الرأي العام المصري. وكان للرأي العام تحفظات لم يقبلها ملنر، غادر الوفد لندن في نوفمبر 1920م ووصل إلى باريس، ومنها أرسل سعد زغلول باشا نداءً إلى المصريين بالاتحاد والتضحية حتى تنال مصر استقلالها. استقال اللورد ملنر في يناير 1921م وخلفه في منصبه ونستون تشرشل كوزير للمستعمرات، وأدلى بأولى تصريحاته التي اعتبر فيها مصر جزءًا من الإمبراطورية البريطانية، مما أثار عاصفة من الاحتجاجات في مصر.
درست الحكومة البريطانية برئاسة لويد جورج تقرير اللورد ملنر، وفي 26 فبراير 1921م قررت اعتبار الحماية البريطانية على مصر علاقة غير مرضية، ودعت مصر إلى الدخول في مفاوضات رسمية للوصول إلى علاقة بديلة تضمن مصالح بريطانيا. قدمت وزارة محمد نسيم استقالتها في 16 مارس 1921م، وعهد إلى عدلي يكن تشكيل وزارة جديدة. عاد سعد زغلول إلى مصر في 4 أبريل، قابله الجماهير بمظاهرات وحفلات. بدأت المحادثات بين سعد وعدلى وقدم سعد شروطه، إلا أن خلافاً قام بينهما على رئاسة الوفد، فكان عدلي يرى بأن تكون له رئاسة هيئة المفاوضات، ما دام هو رئيس الحكومة. عرض على هيئة الوفد في 28 أبريل الاشتراك في المفاوضات، فرأت الأغلبية المشاركة في المفاوضات برئاسة عدلي فانشق الوفد على نفسه، فاعتبرهم سعد منشقين وأعلن عدم الثقة في الحكومة. اجتذب سعد الغالبية العظمى من المصريين إلى جانبه مما كان له آثاره في قيام العديد من المظاهرات العدائية ضدّ عدلي والوزاء المنشقّين في القاهرة والاسكندرية وكافة مدن الأقاليم. تعاملت الشرطة مع المتظاهرين بإطلاق النار مما أدي لقتل وجرح العديد من المتظاهرين. سعى عدلي في تخفيف السخط الشعبي الذي تواجهه وزارته، فتواصل مع السلطة العسكرية البريطانية بشأن رفع الرقابة على الصحف، فكان له هذا في 15 مايو، وصدر إعلانًا من اللورد اللنبي بذلك.
مضت وزارة عدلي بمهمة المفاوضات غير مكترثة لمعارضة سعد زغلول، واستخدمت الإداراة الحكومية في جمع توقيعات من الأعيان وغيرهم. استصدر السلطان في 19 مايو 1921م مرسومًا بتشكيل الوفد الرسمي للمفاوضات برئاسة عدلي يكن. زادت حدة المظاهرات في القاهرة والأسكندرية، واتخذت طابع العداء لكل من خالف رأي سعد زغلول، والنداء بسقوطهم، والاعتداء على منازلهم. في 22 مايو 1921م، اشتدت المظاهرات عنفًا في الأسكندرية واشتبك المتظاهرين مع الأجانب، واشتعلت النار في عدة منازل، وحدث تبادل إطلاق النار. تحولت المظاهرات إلى اضطرابات ما أدى إلى تدخل الشرطة ثم الجيش المصري لقمعها، واستمرت الاضطرابات حتى 23 مايو. على إثر وقوع الاضطرابات صرّح ونستون تشرشل وزير
المستعمرات أنه لا يري الوقت مناسب لجلاء الجيش البريطاني عن مصر. وصل عدلي يكن لندن في 11 يوليو 1921م، وبدأت المفاوضات بينه وبين جورج كورزون وزير الخارجية البريطاني. سلّم كورزون عدلي في 10 نوفمبر مشروع معاهدة أصرت فيه بريطاني على التواجد العسكري في مصر، وتدخلها في مجريات الحكم.
استقدم سعد زغلول بعثة مكونة من خمسة نواب عن حزب العمال برئاسة جون سوان من البرلمان البريطاني للوقوف علي الوضع المصري. في 3 ديسمبر 1921م ذهب المندوب السامي البريطاني - اللنبي- إلى سراي عابدين وسلّم السلطان فؤاد تبليغًا يتضمن ايضاحًا لسياسة الحكومة البريطانية إزاء مصر. تضمن التبليغ أن الحكومة البريطانية لا تنفذ مُقترحاتها في مشروع المُعاهدة دون رضاء مصر. قُطعت المفاوضات وغادر الوفد الرسمي لندن ووصل إلى مصر في 5 ديسمبر، قوبل عدلي من الجماهير بكل صنوف الإهانات والتحقير. قدم عدلي تقريراً إلى السلطان عن المفاوضات، وأوضح استحالة قبول مشروع المعاهدة، وقدم عدلي استقالته في اليوم التالي.
نشر سعد زغلول نداءً إلى المصريين دعاهم إلى مواصلة التحرك ضد الاحتلال البريطاني، كما دعا إلى اجتماع كبير بنادي سيروس، فأنذرته السلطة البريطانية بعدم إلقاء خطب، وأمرته بمغادرة القاهرة والإقامة في الريف له والعديد من زملائه، فرد عليهم سعد برفض هذه الأوامر. اعتقلت السلطة العسكرية سعد زغلول وزملائه، واصدر اللنبي أمراً عسكريًا يوجب على البنوك الامتناع عن صرف أي أموال مودعة باسم سعد أو الوفد إلا بإذن منه. احتج الوفد على هذه الاعتقالات، وقامت مظاهرات في القاهرة ومدن آخرى. غادر سعد زغلول في 21 دسيمبر إلى عدن منها إلى سيلان وهناك أرسلت السلطات البريطانية أحد ضباط المخابرات ليعرض على سعد أن يكون ملكًا على مصر، على أن يقبل الحماية البريطانية وفصل السودان، لكن رفض سعد العرض. في 29 ديسمبر نقلت السلطات البريطانية سعد وصحبه إلى جزر سيشل بالمحيط الهادي.
في 23 يناير 1922م أصدر الوفد قرارا بتنظيم مقاومة سلبية في وجة السياسة البريطانية تشمل؛ عدم التعاون بقطع العلاقات الاجتماعية مع الإِنجليز، وامتناع السياسيين المصريين عن تشكيل الوزارة، ومقاطعة التجارة والبنوك والسفن وشركات التأمين الإنجليزية. بعد أن نشرت الصحف قرار الوفد، اعتقلت السلطة العسكرية الأعضاء الذين وقعوا عليه وسجنتهم في سجن قصر النيل، وعطلت الصحف التي نشرت القرار. على أثر الاعتقالات شُكِلت هيئة جديدة للوفد، أصدرت نداء إلى المصريين باستمرار جهادهم ضد البريطانين، إلا أن السلطة العسكرية ما لبثت أن أفرجت في 27 يناير عن أعضاء الوفد المعتقلين فانضموا إلى الهيئة الجديدة. اشتملت هذه الفترة حوادث اغتيالات على البريطانيين ومن أهمها مقتل المستر براون مُفتش بوزارة المعارف.
ظلت الوزارة شاغره لأكثر من شهرين بعد استقالة عدلي، وأحجم المسؤلين عنها، نتيجة للسخط العام. عُرض تشكيل الوزارة على عبد الخالق ثروت فقدم شروط لقبوله المنصب، منها عدم قبول مشروع كورزون ، وإلغاء الحماية على مصر. قوبلت الشروط برفض كلًا من الوفد والحزب والوطني لتمسكهما بجلاء القوات البريطانية عن مصر. سافر اللنبي إلى لندن لإقناع الحكومة البريطانية بقبول شروط ثروت، لما وجد فيها شروطًا أقل ترضية للمصريين في ثورتهم على الاحتلال. اقنع اللنبي رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج بقبول الشروط، فانتهت مباحثاتهم بقبول شروط ثروت وإعلان تصريح 28 فبراير عام 1922م. عاد اللنبي إلى القاهرة في 28 فبراير يحمل التصريح وعنوانه (تصريح لمصر) ليتضمن انهاء الحماية وإعلان مصر دولة مستقلة ذات سيادة. ابقت بريطانيا بعض الأمور دون تعديل إلى أن يتم الأتفاق حولها وهي: تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية؛ الدفاع عن مصر من كل تدخل أجنبي؛ حماية المصالح الأجنبية في مصر وحماية الأقليات؛ المسألة السودانية. نشر الحزب الوطني في 2 مارس بيانًأ يشطب فيه التصريح لإصرار بريطانيا على انتهاك الاستقلال المصري.
أعلن السلطان فؤاد الأول في 15 مارس استقلال مصر واتخاذه لقب ملك مصر، وشكلت وزارة عبد الخالق ثروت، واعتبر اليوم عيدا وطنيا، لكن الشعب لم يشارك الحكومة الابتهاج بهذا التصريح الذي قوبل بسخط عام. سعت وزارة ثروت في تحقيق مظاهر هذا الاستقلال، فأنشأت وزارة للخارجية تولها ثروت نفسه، وعينت وكلاء مصريين للوزارات بدلًا من البريطانيين، قام الملك بإصدار مرسومًا بتعديل نظام وراثة العرش.
أُلِفّت وزارة ثروت في 3 أبريل 1922م لجنة لوضع مشروع الدستور وقانون الانتخابات وسميت "لجنة الثلاثين". لم يشترك الوفد والحزب الوطني، لأنهم رأوا أن الدستور كان يجب أن يُعهد لجمعية تأسيسية تختارها الأمة لا إلى لجنة تؤلفها الحكومة. رفعت اللجنة مشروع الدستور إلى ثروت في 21 أكتوبر. كثرت عمليات الأغتيالات للأجانب، واتخذت وزارة ثروت الكثير من الإجراءات التعسفيه تجاة المُعارضة منها مصادرتها للاجتماعات المُخالفة لها، وتعطيل صحف "الأهالي والأمة والأهرام". زاد مركز الوزارة حرجًا بعد أن قامت القوات البريطانية باعتقال أعضاء الوفد ومُحاكمتهم بتهمة نشر منشورات تحرض على احتقار الحكومة والملك، ولم تتخذ الحكومة أي قرارًا تجاه هذه الاعتقالات.
تأسس حزب الدستورين الأحرار برئاسة عدلي يكن، وبمساعدة وزارة ثروت؛ لذلك حمل منذ تأليفه طابع العداء لسعد وللوفد. تبنى الحزب سياسة التساهل مع الإنجليز للوصول إلى حل للقضية المصرية. في 29 نوفمبر 1922م قدم ثروت استقالته فقبلها الملك في نفس اليوم، ولم يذكر سبب هذه الاستقالة. في 30 نوفمبر 1922م عُهد إلى محمد توفيق نسيم رئيس الديوان الملكي تشكيل الوزارة الجديد، فشكلها في نفس اليوم. لم تهتم هذه الوزارة باطلاق سراح سعد زغلول ورفاقه المنفيين مما أدى لتجدد اغتيال البريطانيين. شرعت الوزارة في تعديل مشروع الدستور لإعطاء الملك مزيد من الصلاحيات، كما طلبت الحكمومة البريطانية إدخال بعض التعديلات لبعض المواد المتعلقة بها مثل فصل السودان عن مصر وتغيير لقب الملك إلي ملك مصر فقط، وقبلت الوزارة طلب الحكومة البريطانية. في 5 فبراير 1923م استقالت الوزارة، وكان لهذا آثاره في تجدد الاضطرابات في مصر. اغتيل أحد العاملين البريطانيين بالسكة الحديد فتم تعيين الكولونيل كوك كوكس حاكما عسكريا للقاهرة والجيزة، كما القيت قنبلة علي أحد معسكرات الجيش البريطاني بجزيرة بدران.
في 20 مارس قامت السلطات البريطانية بتفتيش منزل سعد زغلزل واستولت على ما به من أوراق، وأغلق المنزل وأقام عليه حرس لمنع الدخول إليه. في 5-6 مارس اعتقلت السلطة البريطانية أعضاء الوفد، وعطلت جريدة اللواء المصري التابعة للحزب الوطني. في 15 مارس 1923م، شَكل يحيى إبراهيم الوزارة الجديدة، بحيث كانت وزارة إدارية بون برنامج. وضع أعضاء لجنة الدستور احتجاجًا على التعديلات التي أجراتها وزارة توفيق نسيم. في 19 أبريل 1923م صدر الأمر الملكي بالدستور، طبقًا للمشروع الذي أقرته اللجنة محذوفًا منه النصّان الخاصان بالسودان. رأت الحكومة البريطانية تهدئة الحركة الوطنية في مصر بالإفراج عن سعد زغلول. نفذ الإفراج في 30 مارس 1923م، وسافر سعد زغلول إلى فرنسا لتلقى العلاج، وكذلك أفرجت عن المعتلقين في مصر من أعضاء الوفد. أصدر اللورد اللنبي قرارًا بإلغاء القرار السابق بشأن تعيين حاكم عسكري للقاهرة والجيزة.
في 30 أبريل صدر قانون الانتخابات في ظل الدستور الجديد. في 30 مايو، أصدرت الوزارة القانون رقم 14 لعام 1923م المُسمى "قانون الاجتماعات العامة والمظاهرات في الطرق العمومية"، والتي قيدت فيه حق الاجتماعات والتظاهر بقيود شتى، وفي 31 مايو فكت السلطات البريطانية اعتقال أعضاء الوفد المُتواجدين في جزيرة سيشيل. في 26 يونيو، اصدرت الوزارة قانون يقضي بجواز تطبيق الأحكام العرفية كلما تعرض الأمن المصري للخطر سواء بإغارة قوات للعدو أو وقوع اضطرابات داخلية، والتوسيع من صلاحيات الحاكم العسكري. في 5 يوليو، جرت مفاوضات بين الوزارة ودار المندوب السامي حول إلغاء الأحكام العرفية، أصدر اللورد اللنبي أمرًا بإلغاء الأحكام العُرفية، مقابل إصدار الحكومة لقانون التضمينات والذي يقضي بإجازة كل ما قامت به السلطة العسكرية البريطانية طوال مدة تنفيذ الأحكام، وعدم أحقية مصر في طلب تعوضيات عن تطبيقها، كذلك صدر العفو عن بعض المحكوم عليهم من المحاكم العسكرية بعقوبات أقصاها 15 عام. عاد سعد زغلول إلى مصر في 17 سبتمبر 1923م واستقبل بحفاوه من قبل المصريين، كذلك عاد أعضاء الحزب الوطني المبعدين إلى أوروبا.
كان نتاج الثورة: إلغاء الحماية البريظانية علي مصر، إعلان مصر دولة مستقلّة ذات سيادة، صدور أول دستور مصري سنة 1923م، تشكيل أول وزارة برياسة سعد زغلول الذي أفرج عن المسجونين السياسيين، وإخلاء مصر من الجيش البريطاني وتمركزه في منطقة القنال.
توفي سعد زغلول في 23 أغسطس 1927 وقد خلفه مصطفي النحاس في رئاسة حزب الوفد