د. نادر نور الدين محمد
رفضت إثيوبيا رسميًا المقترح المصرى- السودانى باستئناف السد الإثيوبى'>مفاوضات السد الإثيوبى تحت مظلة رباعية للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والاتحاد الإفريقى والولايات المتحدة، فمنذ مشاركة لجنة من الخبراء الدوليين فى تقييم السد الإثيوبى خلال الفترة من 2011- 2013 وإدانتها الواضحة للسد نصًا بأنه سد بلا دراسات علمية، وأن له تداعيات سلبية أكيدة على دولتى المصب، قررت إثيوبيا إبعاد المجتمع الدولى وأى خبراء دوليين عن المباحثات، وأعلنت أن المفاوضات ستقتصر على خبراء البلدان الثلاثة فقط، دون مشاركة أو رقابة دولية، حتى تضمن التسويف واستنزاف الوقت واستمرار المهاترات.
هذا الأمر يعكس إحساس إثيوبيا بأن سدها الضخم مخالف لكل القواعد الدولية لبناء دول المنابع سدودًا نهرية، ومخالف أيضًا لقانون الأمم المتحدة للأنهار الدولية، والذى يحتم وجود دراسات علمية شاملة قبل بناء السد تحدد تداعياته على دولتى المصب، ثم تقبلها دولتا المصب، وأن تأخذ وقتها فى الدراسة لسنة كاملة، فإذا لم توافق فإن الأمر ينتقل إلى الأمم المتحدة لانتداب خبرائها للنظر فى أمر السد المقترح وتداعياته على دولتى المصب، وبعدها تصدر قرارها بإنشاء السد أو رفضه، وهذا ما تجاهلته إثيوبيا حين أقامت سدها بقرار منفرد دون اتباع تعليمات قانون الأمم المتحدة للأنهار الدولية وشروطه لإقامة سدود دول المنابع، والتى ينبغى أن تكون صغيرة لا تؤثر على شركاء النهر، ولا القوانين السابقة، بل نحّت القانون جانبًا وأقامت السد ضد كل القوانين والأعراف الدولية. إثيوبيا لا تريد شهودًا دوليين على مخالفاتها، وتريد حصر الأمر فى مفاوضات عقيمة لا نهائية بين البلدان الثلاثة، وحتى ما تم التوصل إليه من بنود فى إعلان مبادئ الخرطوم أفرغته من محتواه، فاستبعدت المكتب الاستشارى الفرنسى الذى كان مخولًا وحده بتحديد نظام الملء والتشغيل وتحديد الأضرار على دولتى المصب، وبالتالى تحديد التعويضات أو إحداث تغييرات فى مواصفات السد من شأنها تقليل الأضرار على دولتى المصب.
.. استبعاد المركز الاستشارى الدولى يعنى بالتبعية إلغاء إعلان المبادئ كليًا لأن كل بنوده نافذة وليست انتقائية على هوى إثيوبيا، بل إنها استبعدت بنود اللجوء إلى الوساطة الدولية عند الاختلاف، وجعلتها دون وجه حق اللجوء إلى الوساطة الإفريقية فقط، وهو ما لم تنص عليه المعاهدة، كما ألغت البند العاشر بحتمية تدخل رؤساء الدول الثلاث، حين تتعثر المفاوضات كما هو جارٍ الآن، ورفضت اجتماع الرؤساء الثلاثة لدراسة الوصول إلى حلول وسط أو اتخاذ قرارات لحلحلة المفاوضات ووضع جدول زمنى للوصول إلى حلول. الإدانة الدولية للسد الإثيوبى المخالف للقوانين الدولية واضحة، حيث وصفته الصحف الإنجليزية بأن إثيوبيا تريد أن تبنى نهضتها على جثث المصريين، ووصفته ألمانيا بأنه محاولة من إثيوبيا لابتزاز واستغلال مصر والسودان لبيع مياه النيل لهما مستقبلًا عبر هذا السد، الذى يُعتبر محبسًا على تدفق أهم روافد النهر من دولة المنبع إلى دولتى المصب.
الوضع الآن ضبابى ويسير فى اتجاه رفض إثيوبيا كل شىء، ففى حين سافر رئيس الوزراء الإثيوبى إلى جنوب إفريقيا فى العام الماضى ليقنعها بتولى ملف السد لتجنب نظر مجلس الأمن الدولى له، فإنه حتى الآن لم يتحرك فى زيارة مماثلة لجمهورية الكونغو لإقناعها باستكمال المسار ورعاية المفاوضات، كما أنه يُصر على أن يظل تواجد ممثلين للاتحادين الأوروبى والإفريقى والولايات المتحدة كمراقبين فقط، ويرفض وجود ممثلين للأمم المتحدة، ولا يحق لهم التدخل فى سير المفاوضات ولا تقديم مقترحات للوساطة أو لتقريب وجهات النظر وكأنهم متفرجون فى ملهاة أو مباراة، وهذه ليست أبدًا أصولًا للتفاوض لمَن يرغب فى الوصول إلى حلول وليس لمَن يريد فرض حلول إذعانية بعيدًا عن الرقابة الدولية. الوقت يجرى بسرعة وينبغى على مصر الضغط أولًا لسرعة عودة المفاوضات والاتفاق على تحديد سقف زمنى لا يتجاوز نهاية إبريل القادم للتوصل إلى اتفاق حول قواعد الملء والتشغيل بما لا يضر مصر والسودان وبما يضمن حدًا أدنى من تدفقات مياه النيل الأزرق لا تؤثر سلبًا على عمل سدودها الأربعة الروصيرص وسنار وميروى والسد العالى، ويسمح بعمل هذه السدود بكامل كفاءتها، ولا يتسبب فى ضرر محطات مياه الشرب فى شرق السودان، والمسؤولة عن توفير مياه الشرب لنحو 20 مليون سودانى، أى نصف سكان السودان، الذين يعيشون فى الشرق السودانى.
وبدأت السودان من الآن فى طلب اتخاذ تدابير تقلل من أضرار الملء القادم بحجم 13.5 مليار متر مكعب ليصل بالمخزون أمام السد الإثيوبى إلى 18.4 مليار متر مكعب فى عامين فقط، وهو حجم غير منطقى وأكبر من أن تتحمل مصر والسودان تداعياته دون أضرار مؤكدة، خاصة من منطقة الدمازين شرق السودان حتى الخرطوم ثم وصولًا إلى السد العالى. حجز المياه وما بها من طمى ومواد عضوية منجرفة من الأراضى الإثيوبية سوف يزيد من الانبعاثات الغازية فى بحيرة السد منتجًا كميات هائلة من غازات الاحتباس الحرارى، ويزيد من أعداد الميكروبات الضارة فى مياه البحيرة، التى ستتدفق إلى مصر، كما سيستنزف كل الأكسجين الذائب فى مياه النهر بما يقتل الأسماك ويمنع تواجدها على طول مجرى النهر فى كل الأراضى السودانية وحتى السد العالى، بالإضافة إلى أنه سيقلل من حجم المياه المتدفقة فى مجرى النهر ويحوله إلى ما يشبه الترعة أو قناة الرى، التى تحمل مياهًا سطحية، فيزيد التبخير وفقد المياه بسبب وصول أشعة الشمس إلى هذا العمق السطحى القليل لمياه النهر المُقنَّن، والذى أصبح مجرد قناة ناقلة للمياه وليس نهرًا.
ستظل إثيوبيا ترفض وجود شهود دوليين لجرائمها فى إقامة سد عملاق لا يتناسب مع سدود دول المنابع، التى حددها القانون الدولى، وبالتالى فعلى مصر والسودان التفكير من الآن عن ماذا ينبغى أن يحدث بعد نهاية إبريل المقبل إذا أصرت إثيوبيا على عنادها، ولم تتوصل إلى اتفاق مع مصر والسودان، ولم تعطِ الطمأنينة المطلوبة لمعدلات تدفقات مياه النيل الأزرق وضمانها لحد أدنى من هذه التدفقات يقلل الضرر على البلدين إلى أقل ما يمكن، إن كان يهم إثيوبيا الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع جيرانها وأن تتخلى عن تحديها للمجتمع الدولى ومخالفة قوانينه.