إعداد وتقديم الباحث - عصام عاشور
تابع الباحث عصام عاشور، حديثه عن تاريخ الحركة الوطنية المصرية.. وفى الجزء الثالث عشر تحدث عن خطاب الزعيم مصطفى كامل لأشهر سيدات فرنسا والتى كانت تصدر مجلة "لاتوفيل ريفيو" والتى كانت تعنى بقضايا العصر والعالم والتى كانت تحتل مكانة مكانةً رفيعة سواء السيدة أو المجلة.
وقال عاشور، خلال برنامجه "الحكاء.. شذرات من تاريخنا" والمذاع على شاشة الأقباط متحدون، كان لهذا الخطاب تأثيرا كبيرًا سواء على تلك السيدة أو بعض نخبة المجتمع الفرنسى.
وحين إلتقت السيدة بمصطفى كامل إعترتها الدهشة لصغر سن الفتى وإلتزمت كما قالت بينها وبين نفسها أن تقف معه لأبعد مدى وأخذت عهداً على نفسها بأن تقدمه لكل أصحاب النفوذ والمكانة ممن تعنيهم قضية مصر.
وطلب مصطفى كامل من السيدة أن تقدمه إلى إحدى الصحف اليومية الكبرى لكى يعرض قضيته على صفحاتها. وبدأ مصطفى كامل عن طريقا أولى الخطوات بإلقاء محاضرة فى الجمعية الجغرافية الفرنسية حيث قال: دخلت بريطانيا مصر بدعوى حماية الشرعية وقمع عصيان وتمرد ضدها وضد المصالح الأوربية بل وضد الحضارة الغربية المسيحية وأكدت بريطانيا حينها أن مهمتها محدودة ومؤقتة تنتهى بمجرد القضاء على ما أسمته الفتنة وأعلنت على العالم وعودها بالجلاء وأنها لن تتأخر يوماً واحداً .. لكنها بقيت حتى الآن ثلاث عشر عاماً وأجهضت خلالها كل قدرات مصر ومواهبها.
بل وحولت مصر إلى ولاية هندية تزرع محصولاً واحداً هو القطن لكى تعمل به مصانعها لم تسدد حتى نصف أسعاره، وقضى الجيش البريطانى على سيادة مصر وإستقلالها، فصار يحكم مصر حكماً مطلقاً حاكم بريطانى وجيش من المستشارين كلمتهم هى السائدة.
ونحن لا نطالب بأكثر من وفاء بريطانيا بوعودها ونحصل نحن على إستقلالنا وسيادتنا وأن تكون لنا حكومة وطنية دستورية، وأردف مصطفى كامل قائلاً : إن مصر الحرة الدستورية هى أفضل ضمان للمصالح الأوربية .. وأن مصر المحتلة المستعمرة هى مجرد أداة للمصالح البريطانية .. تلك المصالح التى تضعها بريطانيا فوق كل مصالح أخرى.
ثم قرر مصطفى كامل أن يبدأ الطواف فى العواصم الأوربية، فبدأ بفيينا عاصمة النمسا فكتبت أهم صحفها يزورنا الآن شاب مصرى يطوف أوربا ليشرح قضية بلاده ويطالب بتحريرها من سيطرة الإحتلال البريطانى، ثم تتالت الدعوات وخاصة من الأحزاب الإشتراكية والراديكالية.
فزار ايطاليا ثم المانيا ثم بودابست وتكلم وخطب فيهم جميعاً قائلاً : لا نريد أكثر من أن تكون مصر للمصريين فإننا نطالب بالعدل والمساواة والحرية ولا شئ آخر.
وأكد فى البرلمان الألمانى إن تعاطفنا مع الشعوب الإسلامية أمر طبيعى لا تعصب فيه ولا يوجد مسلم مستنير يظن لحظة واحدة أنه من الممكن جمع الشعوب الإسلامية فى حلف واحد ضد أوربا المسيحية والذين يقولون ذلك جهلة يريدون إيجاد هوة بين أوربا والعالم الإسلامى.
ثم بعث برسالة إلى الشعب الأمريكى على صفحات جريدة " الهيرالد تريبيون " جاء فيها : " إن أم الدساتير والبرلمان ومسقط رأس الديمقراطية كما تدعى تحرم شعباً عريقاً ولدت الحضارة الإنسانية على أرضه من ممارسة حقوقه وحرياته البديهية وذلك بإسم تأهيله لحكم نفسه ".
وبذلك لم يسبق أن واجهت بريطانيا حملة ضارية ضد سياستها مثل تلك التى شنها مصطفى كامل.
حتى أصبح أحد أهم المهام الرئيسية لسفرائها فى مختلف العواصم تعقب نشاط مصطفى كامل ومحاولة إحباطه، وبالطبع لم يستطع مصطفى كامل أن يسافر إلى لندن.
لكن إستطاع أن يرسل خطاباً إلى رئيس وزراء بريطانيا (جلادستون) الذى تم على يديه الإحتلال والذى إعتزل السياسة وتفرغ لكتابة مذكراته ليراجع فيها ما إقترفت يداه.
جاء فيه أنك أصبحت من دعاة الجلاء عن بلادنا وقد جاهرت بذلك أكثر من مرة بل وقلت أنه لا يليق ببريطانيا أن تصر على إحتلال مصر إلى أجل غير محدود وقلت أن ذلك يزرى بشرفها أشد الزراية.
فإذا كنت لم تستطع الوفاء بهذه العهود خلال توليكم السلطة فإذا كان مازال هذا رأيكم فهل لكم أن تصرحوا متى يمكن أن يتم هذا الجلاء.
فإن تصريح لكم مثل هذا سوف يكون له أعمق الأثر خاصة فى هذه الأيام التى يعتقد فيها أغلب المسلمين أنكم من أكبر أعداء الإسلام.
كانت المفاجئة الكبرى هى رد جلادستون على خطاب مصطفى كامل الذى جاء فيه :
أنه شديد التعاطف مع شعور مصطفى كامل نحو بلاده .. وأنه مجرد من السلطة .. وأنه مازال عند رأيه من أنه يجب ترك مصر .. وأنه يعلم أن موعد الجلاء قد حل منذ سنتين .. وإننى لما كنت فى السلطة وقبل أن أغادرها حاولت إقناع الحكومات الأوربية لمساعدتى فى تسوية المسألة المصرية .. وإننى الآن مجرد مواطن عادى.
كان تأثير الخطابان خطاب مصطفى كامل وخطاب جلادستون خاصةً عند نشرهما بجريدة الفيجارو الفرنسية كبيراً مما إستفز البريطانين.
وكان الرد سريعاً من خلال جريدة الإجبشيان جازيت لسان حال الإحتلال .. التى لم تجد وسيلة لإجهاض ما يقوم به مصطفى كامل سوى الوقيعة بينه وبين الخديوى عباس فكتبت تقول :
بدأ عباس يقلق من الزعامة التى يسعى إليها مصطفى كامل وإذا ما تعاظمت سوف تكون زعامة شعبية جارفة تغطى على مكانته الملكية وتوقعه فى نفس المأزق الذى وقع فيه أبوه أمام زعامة عرابى ويصبح كامستجير من الرمضاء بالنار خاصةً وأن عباس ومصطفى كامل من عمر واحد وولدا فى نفس العام 1874 وكلاهما يدفعه طموح شخصى بلا حدود وراء عمله الوطنى. هكذا بدأ الإنجليز يبذرون بذور الفتنة والوقيعة بين الخديوى ومصطفى كامل.
وكان رد مصطفى كامل السريع :
"إن الإنجليز لكى ينتقموا سارعوا بإستتكاب الجرائد التى تخدم مصالحهم لكى ينشروا أننى أريد أن أصير خدوياً .. لكنى أصرح أن أول ما أسعى إليه هو إستقلال مصر الداخلى وبفاء الحكم فى بيت محمد على وكل تصرف أقوم به واضح يثبت أننى أوفى صديق للخديوى والعرش"
وهنا قرر مصطفى كامل أن يبدأ مرحلة جديدة من النضال لكن من داخل مصر.