في مثل هذا اليوم .. لمحت ثورة الحب كله في عيون هند ...!
بقلم : نبيل المقدس
منذ 60 عاما وفي نفس هذا الوقت كان عمري عشر سنوات تقريبا .. تعودنا أن نقضي صيف يوليو واغسطس في القاهرة هروبا من حر اسيوط .. كانت القاهرة وقتها تٌعتبر مصيفا لنا قبل ما تمتلىء بالكتل الأسمنتية التي منعت نسمة الهواء الساقع الجاف والتي كانت القاهرة تتميز به عن المحافظات الأخري .. حتي أنها كانت تنافس المدن السياحية في جذب السياح إليها . في هذا الشهر من سنة 1952 بدأت اشعر بإنجذابي نحو الفتيات , بالإضافة إلي التركيز عما يدور حولنا من تغيرات سياسية وإجتماعية وإقتصادية .. وهذا نتيجة أن جيلي وما قبله غوي القراءة في جميع المجالات , فقد كنت أستغل وجودي في القاهرة وأذهب مع عمي إلي سور الأزبكية يوم في الأسبوع ويتركني ليذهب إلي عمله القريب من العتبة .. كان سور الأزبكية بالنسبة لي افضل بكثير من ذهابي إلي حديقة الحيوانات أو إلي دور السينما .. فكنت أجلس تحت شجرة بعد ما أختار الكتب التي تستهويني وانسي الدنيا واسرح بين سطورها حتي يجيء عمي ليوقظني من احلامي , والمضحك أن عمي كان يناول صاحب "الفرش" 5 مليمات مقابل القراءة لهذه الفترة " حوالي 6 ساعات ", وكنت أسمع كلمات الشكر من صاحب الفرش وكأننا كنا نعطيه حسنة بدون مقابل ...... أيام لا تُنسي !!!!!!!
نعم ... في هذه الصيفية عام 1952 أعترف وأقر أنني إجتزتُ أول تجربة حب فاشلة في حياتي .. وتبدأ قصتي بأنني سمعت صوت آلة موسيقية صادرة من بلكونة الجيران .. وكان اللحن لقطعة موسيقية عظيمة للموسيقار محمد عبد الوهاب " اسمها سمبـــا " .. كنت أعشقها جدا لأنها كانت بداية نقلة موسيقية عظيمة من الفن القديم إلي الفن الحديث .. كان العزف جيدا جدا مما أضطررت أن أخرج إلي البلكونة لأجد بنت الجيران " هند" والتي كانت تقريبا في مثل عمري هي صاحبة هذا العزف .. وكنت قد تركتها السنة الماضية بنت صغيرة .. لكن ولأول مرة آراها هذه المرة وقد تغير "ستايلها" .. فإذ تقول لي " إزيك يا نبيل ... أنا هند ... حمدلله علسلامة" . ويادوب نظرت إليها لأتحقق منها وإذ أسمع بوضوح دقات قلبي , وتخيلت نفسي أنني جالس علي سور الأزبكية أقرأ كتاب حب ليس له بداية .
تعودنا أن نلتقي يوميا بعد الظهر في البلكونة , وكنت أحاول أن أحكي إليها بعض القصص التي تدور حول الحب .. متعشما أنها تكون فهمت ما أقصده .. لكنني أفاجيء بها تحول وجهة الحديث إلي آلة الإكسليفون , التي تجيد العزف عليها .. طبعا لم تكن هذه الآلة بجمال الآلة التي تعزف عليها اليوم الفنانة البارعة " شيماء عبد العزيز " .. وفي نفس الوقت كانت تجبرني أن اسمع إلي عزفها .. لكن المصيبة أنها كانت لا تجيد إلا عزف مقطوعة " سمبا " فقط لا غير .. لما كرهتني فيها ... !!
في إحدي لقاءات البلكونة .. فاجأتني هند أن عائلتها وعائلتي قد إتفقا علي قضاء وقت جميل عند سفح الهرم .. طبعا فرحت جدا .. وأخذت أجهز نفسي لهذا اليوم وأنا مُصر أن أضع نهاية معها حول شعورها نحوي ... "أحلام وتصورات الصبا " ... لبست الشورت الأبيض وإذ أفاجأ بأن والدتي تناولني "تي شيرت" بحمالات مطبوع عليه صورة ميكي ماوس , فقد كان آخر صيحة وموضة في وقتها لوجود هذا الإختراع الجديد وهي طباعة الصور علي الملابس .. طبعا اتنرفزت ورفضت أن ألبسه , وبعد مشاورات ومداولات غيرت "الـ تي شيرت" ولبست قميص سادة .. ثم لبست "الصندل ابو صباع" فقد كان وقتها آخر صيحة أيضا في موديلات الصنادل .. وكان كل مَنْ يلبس هذا الموديل يدل علي أنه من العائلات المحترمة المتطورة , فقد كنا نفتخر جدا به بالرغم من مشاكله التي نواجهها منه , لأن اي تلف يحدث له معناه المشي حاف. ..!
اكتب كلمات هذه الأحداث التي حدثت منذ 60 عاما يوم 23 يوليو , وكأنني أعيشها اليوم من شدة وقوة أحداثها .. في هذا اليوم استقلينا الترام رقم 5 الذي نقلنا من منطقة غمرة إلي منطقة آخر شارع الهرم ... كنا حوالي 10 اشخاص في هذه الرحلة .. وعندما تأهبنا الصعود إلي منطقة الأهرامات توقفنا فجأة حول كشك الحراسة والذي كان يذيع بيان انور السادات عن قيام الثورة المجيدة بقيادة مجموعة من الظباط الشبان .. وإذ نفاجىء وكأن الأهرامات ترقص فرحا لفرحة الشعب , وزئير ابو الهول ينطلق ليعلن عن عهد جديد لشعب مصر الحر .. وسري الخبر بسرعة غريبة .. واسمع أبي يعلق علي هذا الحدث .. اكيد هؤلاء الظباط من الإخوان .. ويليه عمي لالالالا دي حركة عسكرية وطنية ضد الفساد .. اما خالي الذي كان يميل إلي اليسار علق قائلا : عليّ أن اترك مصر فورا , فهذه حركة أمريكية ضد الشيوعية ... وتنوعت المجادلات بين الأفراد الذين يحيطون بكشك الحراسة .. لم نكمل الصعود إلي الأهرامات .. بل رجعنا في نفس الترام إلي قواعدنا سالمين .. ومن المدهش وفي وقت لا يزيد عن ساعة وهي رحلة الرجوع نفاجأ ببائعي الجرائد ينتشرون في جميع شوارع القاهرة و يوزعون ملاحق الطبعات حاملة خبر قيام الثورة المجيدة .. واسماء رجالها وأهدافها .. تذكرت هذا المجهود المضني من المؤسسات الصحفية والتي فاقت سرعة الإنترنت الذي نتباهي به اليوم بسرعة نقل الخبر ... هذه هي الثورة الحقيقية .. مهما إختلفت معها أو لم أختلف معها .. فهي جزء رئيسي من تاريخ مصـــر , وقطعة من تاريخي الخاص , لأنها ثورة كانت لها قيادات وأهداف ومشروعات ... فقد عشقنا هؤلاء القادة الشباب .. وكنا نحتفظ بصورهم مع صور الفنانين والكتاب ..! ولا أنكر بل اقولها صراحة أن كل الشعب المصري حفر ونقش كلمة جمال عبد الناصر علي بشرة حياته .. !
وما حز في نفسي اليوم أن أجد رجال الدولة المستحدثين , والذين خرجوا من جحورهم ينكرون هذا التاريخ الرائع .. و يخرج علينا الرئيس المنتخب لكي يقول خطبة في ذكري ثورة 23 يوليو كتطييب خواطــر للشعب المصري الأصيل , ومتعمدا عن عدم ذكر إسم قائدها جمال عبد الناصـــر ... متصورا أن الشعب المصري يوافقونه علي هذا العبث في تاريخ مصر .. !
قبل أن أودع هند امام مدخل عمارتها خطفت طربوش خالي الذي كان يمسكه في يديه , وبدون وعي وبطريقة عفوية وضعت الطربوش علي رأسها حتي توقف فوق عيونها الخضراء .. ولأول مرة ألمح ثورة عظيمة من الحب الطفولي الطاهر ممزوجة بثورة يوليو المجيدة تشع من عيونها .. ولم تكتمل فرحتي بها عندما قالت لي : " هتوحشني .. بابا وماما وتيتة قرروا أن نترك مصـــر إلي اليونان " .. فقد ظنوا أن هذه الثورة هي ما إلا حركة إخوانجية .. أو بالكثير قوى حركة شيوعية .. وفي كلتا الحالتين لا تناسبهم .
*** ذهبت هنـــد .. وبقيت ثورة من أعظم ثورات العصر الحديث " ثورة 23 يوليــــــو " ... والتي ماتزال تعمل وتعمل حتي تطرد خفافيش الظلام الذين ظهروا فجأة علي أكتاف حركة لا نعرف حتي الآن من قائدها , ومن أين انبثقت وإلي أين تذهب بنــــا ......!!!!
لكِ السلامــــة يا مصــــر ....!
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :