كتب : مدحت بشاي
medhatbeshay9@gmail.com
لا ريب أن أزمنة ازدهار الفنون والآداب وكل صنوف وأشكال الإبداع كان لابد يصاحبها و يساهم في تطورها حركات نقدية رائعة تدفع بأصحاب المواهب والملكات الإبداعية للتقدم في بداية مشوارهم ، و تُعين المتلقي على قراءة إبداعات الكبار ، ثم تناول الأعمال الأقل قدرًا وكشف أنصاف المواهب والقدرات ، وعديمي الموهبة وأدعياء الوسط الثقافي والفني من المُقلدين والمُزيفين ولايملكون أي مشروع إبداعي أو ثقافي ..
نعم ، ففي زمن مضى كان فيه الإبداع ضرورة للتقدم ، وكان النقد حتمية يفرضها حلم اكتمال الوعي بضرورة الإبداع ـــ على سبيل المثال ــ رصدت لنا مجلة الرسالة في مطلع الثلاثينات دور النقد الأدبي المتميز في تقديم الكاتب الكبير توفيق الحكيم .. يقول محررها " لقد ظهر منذ اللحظة الأولى نجمًا ساطعًا، وأصبحت له شهرة واسعة بعد أن أصدر مسرحيته الأولى "أهل الكهف" والفضل في ذلك يعود إلى طه حسين وإلى نفوذه الأدبي لدى جماهير المثقفين، فعندما كتب طه حسين عن توفيق الحكيم بحماس شديد، أصبح توفيق الحكيم نجمًا، وأصبح واحدًا من كتاب الصف الأول في الأدب العربي المعاصر منذ بدايته، ومقال طه حسين عن توفيق الحكيم هو نموذج حي على تأثير "الناقد" في الحياة الأدبية وأذواق الناس، فعندما يكون الناقد صاحب كلمة مسموعة وموثوق بها، فإنه يستطيع أن يبني ويهدم، ويستطيع أن يخلق نجومًا ويطفئ نجومًا أخرى.وقد كان طه حسين عند أول ظهور لتوفيق الحكيم سنة 1933، هو هذا الناقد القوي، صاحب التأثير الواسع على الناس، وصاحب الكلمة المسموعة بينهم، ولعل هذه الحادثة الأدبية التاريخية تلفت النظر إلى أهمية "النقد" القوي المؤثر في حياتنا الأدبية، وفي حياة أي أدب آخر من آداب العالم، وبدون "الناقد" القوي الواعي الشجاع فإن الحياة الأدبية تفقد القيادة السليمة وتضيع منها أية رؤية واضحة .. " .
ويرصد لنا الكاتب الرائع " عباس خضر " ما جرى في زمانه عبر ندوة ثقافية نقدية شارك فيها حول عمل أدبي ، وكيف دار الحوار بين مجموعة رائعة من الكتاب والنقاد ، وذلك في عدد 5 فبراير 1951 ضمن برامج " الجامعة الشعبية " .. أستأذن قارئ جريدتنا الرائعة " القاهرة " لعرض جوانب منها ..
يقول " عباس خضر " جرت الجامعة الشعبية على أن تنظم مناقشات أدبية تدور حول كتاب يُختار للعرض والمناقشة. وقد كان كتاب الندوة الأخيرة هو قصة ( على باب زويلة ) للأستاذ " محمد سعيد العريان "، قام بعرضه ونقده الأستاذ " زكريا الحجاوي "، وقد بدأ حديثه بمقدمة حمل فيها على الأدباء الكبار الذين تعرضوا لكتابة القصة الطويلة من حيث محاكاتهم وأخذهم من قصص الغرب، حتى شبههم بالغراب الذي يحجل في جنة الكروان. . . ومن حيث استئثارهم باهتمام النقاد وعنايتهم، ذاهباً إلى أن قصة ( على باب زويلة ) ليست كذلك ولم يظفر صاحبها بما يستحق من إشادة النقاد لأنه ليس من المشهورين اللامعين، وذاهبًا أيضًا إلى أن ذلك يدل على أن النقد عندنا مصاب بــ ( الأنيميا ) على حسب تعبيره ، وكان الأستاذ الحجاوي مُغاليًا في ذلك ولكن لنغض عن هذه الحالة محتفظين بعبارة ( أنيميا النقد ) فقد لاحظت بعض أعراضها في كلامه على كتابنا هذا المعروض للنقد والمناقشة. يظهر أن كلمة (النقد) ليست في حساب هذه الندوات، ولذلك نراها تعبر في الإعلان عن الندوة بكلمتي ( عرض ) و ( مناقشة ) وإن كانت المناقشة يدخل فيها النقد، ولكن الإدارة المشرفة لا تميل إلى أن يدخل فيها ما قد يغضب حضرات المؤلفين الذين تؤثرهم باختبار مؤلفاتهم. ولو أن الأستاذ الحجاوي التزم هذا الوضع واكتفى بعرض الكتاب دون الاتجاه إلى نقده ، لسلم من أعراض الأنيميا النقدية ، ولكنه أديب مثقف حصيف ، وكاتب قصصي ملحوظ ، فلابد أن يحمله شيطانه على النظر فيما يعرض له ليقدره ويقومه. ولكنه مع ذلك رضى أن يتعرض لتلك الأنيميا لأنه كان يشرف على النقد ثم يمسك عنه، ويمضي في شيء من التقريظ يغطي على سوء الوقع لدى الجمهور غير المستعد نفسيًا لسماع النقد، ولست أدري مدى ما بينه وبين المؤلف من علاقة.
وأشاد الأستاذ الحجاوي بعمل المؤلف في هذه القصة من حيث إنها جلت حقائق تاريخية في الحقبة التي مرت بها حوادثها وخاصة ما بذله المؤلف من جهد لكشف الغموض في أحداث عصر المماليك الذي وقعت فيه القصة والذي لم ينل عناية المؤرخين ومن حيث اختباره موضوعاً مصرياً يظهر فيه خط الاتجاه الذي لا بد منه في كل عمل قصصي قيم، ويبدو هذا الخط في العناية بالناحية المصرية القومية في عرض بعض المواقف، وقال إنه يعتبر هذا الاتجاه ريحانة يضعها على مفرق الأستاذ العريان.
وكان الأستاذ نجيب محفوظ قد أخذ على القصة أنها مزدحمة الحوادث وطويلة السنين وأنه يمكن أن تستغل بعض مواقفها وفتراتها في عمل تكون عناصر الفن فيه أكمل. رد الحجاوي على ذلك بأن الفترة التي تقع فيها حوادث الرواية تكاد تكون مجهولة التاريخ فكان عمل المؤلف مُجليًا لها. ولكني أرى هذا دفاع تاريخي لا فني، أي أن المقصود به مصلحة التاريخ ومعناه أن القصة ضرورة تاريخية مؤقتة حتى يهتم المؤرخون بهذا العصر ويوله ما يستحق من عناية.ولم أفهم ما يعنيه الأستاذ الحجاوي بما قاله من أن القصة ليست قصة أدبية ولا قصة تاريخية وإنما هي ملحمة! هل خرجت الملحمة عن أنها قصة أدبية أو تاريخية؟ ..