إعداد وتقديم الباحث - عصام عاشور
استكمل الباحث عصام عاشور، الحديث عن تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وفى الحلقة الثامنة تحدث عن تولى عباس حلمى الثانى حكم مصر.
وقال عاشور، خلال برنامجه "الحكاء.. شذرات من تاريخنا" والمذاع على شاشة الأقباط متحدون، إنتهت الحلقة السابعة بنفى عرابى ثم موت الخديوى توفيق.. ورأينا رأى الجميع فى توفيق بمن فيهم أبيه إسماعيل وحتى الإنجليز الذى تفاني توفيق فى خدمتهم بل وخان شعبه ووطنه لصالحهم.
<
وتابع: كان عباس حلمى الثانى ولى عهد توفيق يدرس فى فيينا بالنمسا فى مدرسة الأمراء وبالتالى فهو تربى فى عاصمة العلم والفن والثقافة أى تربى فى حجر الحرية والإستقلال.
وحين توفى والده واستدعى لتولى العرش كان تقريباً فى سن السابعة عشر من عمره .. لكن الفقهاء كالعادة وجدوا الحل سريعاً وذلك بحساب سنه وفق التقويم الهجرى .. فتولى عرش مصر المحروسة.
وعلى الفور بارك اللورد كرومر هذا الحل بل وتفاءل بالأمير الجديد صغير السن محدود الثقافة والذى سوف يصوغه كما بشاء ويقود خطواته فى الإتجاه الذى يريده.
وعلى الفور أيضا بدأت الصحف الإنجليزية فى توجيه النصح لكل أطراف الحكم فى مصر .. فمثلاً كتبت صحيفة التايمز (إن إنتقال العرش يؤكد ضرورة إستمرار الوجود البريطانى .. وأن يظل اللورد كرومر فى منصبه وذلك لخبرته العميقة بشئون مصر .. أن يظل المستشارون البريطانيون فى مناصبهم وبسلطاتهم وأن يسترشد بهم الخديوى ويأخذ بنصائحهم).
وفى مقال آخر كتبت نفس الصحيفة : حبذا لو عُين مستشار بريطانى خاص فى القصر ليقف إلى جانب الخديوى الصغير ويرشده.
هكذا بدأ عباس حلمى الثانى الحكم تحت هذه الضغوط .. وصدر الفرمان العثمانى له فى 26 مارس 1892.
إستقبل المصريون الخديوى الجديد بالبشر وذلك بسبب كرههم لوالده نتيجة خياناته المتكررة لهم .. فإحتشدوا فى كل محطات القطار من الإسكندرية إلى القاهرة يهتفون ويهللون للخديوى الصغير الوسيم .. حيث كان يرى المصريون أنه إنزاح عنهم حاكم كريه ملعون إرتكب كل الخطايا والكبائر .. وإنتهى به المطاف إلى خيانة وبيع البلاد للمحتل الإنجليزى.
عند جلوس هذا الأمير الشاب على عرش مصر أسر لحاشيته المقربة منه :أنه لم يعرف بلده ولا شعبه .. وأنه قضى طفولته فى القصر ولما شب عن الطوق سافر ليدرس فى الخارج وإنه لهذا يريد أن يتعرف على الشعب بكل طبقاته وفئاته بلا إستثناء .. وأن يعرف بلاده ويطوف بمدنها وقراها .. ويتعرف على مشاكلها مباشرة.
أيضاً أعلن عباس حلمى الثانى أنه سيفتح أبواب القصر لكل المواطنين من أصغرهم إلى أكبرهم .. وسوف يلتقى بهم ويدعوهم إلى مائدته ويسمع منهم مباشرة.
فإستلزمت هذه البداية وتلك القرارات منه التخلص بفصل الحاشية التى كانت تحيط بأبيه .. فهو كان قد رأى رجال تلك الحاشية .. وكيف كانوا يتصرفون نحو الأجانب وخاصة البريطانيين .. فقال ( إن أبى قد ذهب بعيداً فى الإستسلام .. وأن هؤلاء الحاشية الذين يلتفون حوله وصمة فى حياة مصر.
وحينما وصلته كثير من تظلمات بعض المحكوم عليهم فى الثورة العرابية وأيضاً سوء حالة ذويهم .. فأصدر عباس قراراً بالعفو عن عدد غير قليل من الذين أدينوا فى أحداث الثورة مع عودتهم للخدمة فى الحكومة .. وبالطبع لم تشمل قرارات العفو المحكوم عليهم بالنفى المؤبد وهم عرابى والباشوات.
قوبل القرار بالفرح من أسر المحكوم عليهم وبالإعجاب والثناء من كل طبقات الشعب . وظهر الخديوى الشاب الجديد بمظهر الكرم والسماح.
هنا بدأ القلق يعترى اللورد كرومر فالحاشية التى تم فصل أفرادها .. كان معظمها عيون وجواسيس له .. وقرار الإفرج عن العرابيين يعتبر ضربة قاصمة لنفوذه وهيبته .. وكان قرار العفوعن عبد الله النديم قد فجر حمم الغضب لدى اللورد خاصة وأن النديم أعلن عن عزمه على إصدار جريدة "الأستاذ" .. وكان المعروف آنذاك أنه إذا غضب اللورد كرومر إهتزت له الأرض وأرعدت السما .. كما كان يقال أيامها .. وهنا كتب اللورد إلى لندن يقول (لقد عاد شبح عرابى ليطل من جديد وسوف يكون زعيم العصاه هو الخديوى نفسه) ويقصد عباس.
حقد الإنجليز على عباس وعلى كبرياءه .. وتربصوا به الشر وترقبوا الفرصة للصدام به.
وهنا نستطيع القول بكل بساطة .. أن عباس أمضى عامه الأول فى الحكم فى التعرف إلى شعبه وإلى وطنه وإستطاع بذلك أن يعد مسرح المعركة التى قرر أن يشنها مستنداً إلى ما إكتسبه من ثقة وما وجده من مقومات.
كان رئيس الوزراء مصطفى فهمى .. وبعد هزيمة الثورة العرابية قد إرتمى فى حضن الإحتلال الإنجليزى .. وتفانى فى الولاء لهم .. حتى أن اللورد كرومر كان قد وجد فيه الرجل النموذجى .. لذلك قرر أن يكون مصطفى فهمى هو رئيس وزراء مصر الدائم طالما هو – كرومر – فى مصر.
وعلى جانب آخر دأب عباس على زيارة الآستانة كلما رحل إلى خارج البلاد .. لتوطيد علاقته بالسلطان ظناً منه وأملاً فى تقوية مركزه أمام الإحتلال الإنجليزى وطمعاً فى مساعدة الباب العالى فى تخليص البلاد منهم.
مرض مصطفى فهمى فإستغل عباس هذه الفرصة وطلب منه أن يستقيل مراعاة لصحته.
نصح الإنجليز مصطفى فهمى برفض طلب الخديوى والإستمرار فى منصبه.
وبالفعل أبلغ مصطفى فهمى مندوب الخديوى برفضه تقديم إستقالته .. بل زاد على رفضه بأن أبلغ المندوب أن ينصح الخديوى إلا يقدم على مثل هذه القرارات دون إستشارة فخامة اللورد كرومر.
فأقال الخديوى على الفور رئيس الوزراء مصطفى فهمى وعين حسن فخرى الذى كان معروفاً بالنزاهة والإستقامة وليس بالولاء والهوان للورد والإنجليز .. وحين تم أُخطار اللورد كرومر بذلك قال : (حانت اللحظة لتلقين هذا الغلام الأحمق درس حياته).
وذهب للخديوى وقرأ عليه ما يلى :
إن إختيار رئيس الحكومة المصرية هو حق معترف به للحكومة البريطانية ولا يمكن أن يتغير رئيس الحكومة بغير إستشارتها وموافقتها وهذه هى القاعدة التى تحكم علاقة البلدين منذ برقية رئيس الوزراء البريطانى لشريف باشا قبل عشرة سنوات وأى خروج على هذه القاعدة لابد وأن تكون عواقبه وخيمة.
فلم يهتز عباس ورد على اللورد (لقد تسلمت العرش من السلطان العثمانى بمقتضى فرمان عثمانى ولم يكن به أى نص يقيد حقى فى إختيار رئيس الوزراء .. أو يلزمنى بإستشارة الحكومة البريطانية.
خلاصة القول قامت الدنيا ولم تقعد .. فقد مرت أيام عصيبة وتدخل الوسطاء .. وإزاء تمسك عباس برأيه .. تم إقتراح بحل وسط وهو أن يتنازل كل من الطرفين عباس واللورد كرومر .. فلا يعود مصطفى فهمى إلى رئاسة الوزارة ولا يتولاها حسن فخرى.
قبل الطرفان عباس واللورد كرومر هذ الحل. وبالتالى إنقشعت الأزمة التى إستمرت ثلاثة أيام.
لكن هذه الأزمة وهذه الأيام الثلاثة كانت نقطة تحول مصر.. (من مصر المحتلة الساكنة والمستكينة إلى مصر المقاومة) .. لتبدأ هنا حلقة جديدة من تاريخ الحركة الوطنية للشعب المصرى.