لم يعد ينتظر وساطة أو وصاية ولكن يخرج مدافعاً عن حقوقه
يملأ الخبير السياسي الدكتور عادل جاد في هذه الورقة فجوة بحثية وإعلامية لم ينتبه لها الاجتماع السياسي، وهي ظهور جيل قبطي جديد في مصر بعد ثورة 25 يناير سنة 2011، جيل لم يعد ينتظر وساطة أو وصاية الكنيسة والدولة ولكن يخرج مدافعا عن حقوقه.. هذا ما عرفته الأحداث الطائفية بعد الثورة وهذا هو التحدي في مرحلة ما بعد شنودة وبعد صعود الإٍسلاميين.
نص الدراسة
جاء رحيل البابا شنودة الثالث، بطريرك الكرازة المرقسية الذي يقف على رأس أكبر الكنائس المسيحية في الشرق الأوسط، يوم 17 مارس العام 2011 توقيت دقيق، فمصر تمر بمرحلة انتقالية متعثرة، لم تتراجع فيها أحداث العنف الطائفي الرمزي والعملي عقب الثمانية عشر يوما التي عاشتها من الإجماع الثوري، كما برزت فيها بقوة قوى الإسلام السياسي التي أمسكت وكادت تمسك بكافة خيوط اللعبة، سواء كان ذلك بموجب توافق مع العسكر أو خطة محكمة من المؤسسة العسكرية للإيقاع بقوى الإسلام السياسي أو الإخوان المسلمين، فصيلها الرئيس، فكان البرلمان ثم حله ثم فوز الرئيس محمد مرسي( المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين) في سباق الرئاسة المصرية وتنصيبه رسميا في 24 يونيو الماضي..
بين هذه السياقات وفي غمار ضبابها خرج جيل قبطي جديد رافضا المعادلة التقليدية لعلاقة الكنيسة بالدولة، التي سادت طوال عقود من تاريخ البابوية في عهد شنودة ومبارك، جيل بدأت تتسم ملامحه من حوادث العنف الطائفي ومن الإصرار على المواطنة الكاملة، جيل خرج بعيدا عن أسوار الكنيسة، وحمايتها أيضا، مطالبا بحقوق المواطنة الكاملة غير المنقوصة..
وفي مرحلة تالية عاد مجددا إلى الكنيسة لا كي يحتمي داخل أسوارها أو يطلب منها تمثيله أمام الدولة، بل ليدفعها إلى نحو التكيف مع ما يتطلع إليه ويريده ألا وهو مزيد من الفصل ما بين الدين والسياسة، أن يعطوا ما لقيصر ( السياسة) لقيصر وما لله ( العمل الروحي) لله، وهو أمر أحسب أنه سوف يؤثر بقوة على دور ومكانة الكنيسة في مصر في الفترة القادمة، كما أنه سيؤثر بصفة عامة على مسار التطورات في مصر في هذه الفترة الانتقالية الحرجة.
الجيل القبطي الجديد.. التمرد على المعادلة التقليدية
تتعدد المشاهد التي يمكن أن نتوقف أمامها في مجتمعنا المصري مع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، وكثيرة هي المشاهد التي يمكن تحليلها والتوقف أمامها لمعرفة أين نقف نحن، وإلى أي مرحلة وصل مجتمعنا المصري، ولعل المشهد الأبرز هو ذلك الذي تشكلت ملامحه بعد دقات منتصف الليلة الأخيرة من عام 2010، عندما دوى التفجير الإرهابي أمام كنيسة " القديسين" بالإسكندرية، وما ترتب عليه من تداعيات، والهدف هنا ليس التوقف أمام سوداوية المشهد بكل ما يحمله من ارتداد وسقوط في مستنقع لم نكن نتوقع أن تهوي إليه مصر في يوم من الأيام. ملامح السواد في المشهد كثيرة، تفجير إرهابي يوقع عشرات الضحايا الذين فرغوا للتو من الصلاة، مشاعر مختلطة للمصريين يطغى على أغلبها الصدمة والحزن، الخوف الشديد على البلد، الأبناء والمستقبل.
حديث مكثف من الوهلة الأولى عن أن العملية صناعة " خارجية"، الموساد أو القاعدة، ليس مهما، المهم أن المجرم ليس صناعة محلية، بل أن البعض ذهب إلى عدم وجود مكونات محلية بالمرة في هذه الجريمة، ولما لا وفي ذلك إعفاء كامل للنفس من المسئولية حتى ولو كان الثمن الحقيقة هو أمن مصر والمصريين.
ومن بين المكونات المختلفة للمشهد الراهن نتوقف أمام مشهد مظاهرات الشباب القبطي التي جابت شوارع المدن المصرية تندد بالجريمة، ترفع شعارات غاضبة، لم تخل من الطائفية، ولم تكن بعيدة في بعض الأحيان عن ارتكاب تجاوزات احتوتها في الكثير من المواقف حكمة الحكماء وطول الأناة، وتقدير حالة الغضب والغليان التي يشعر بها هؤلاء الشباب.
ويبدو واضحا أن مظاهرات الشباب القبطي شكلت قمة تطور ظاهرة الاحتجاج الذي بدأ خجولا عندما أراد بعض الشباب التظاهر ضد ما يراه من " تمييز " وحقوق منقوصة، ومطالب مهدرة، فاختار الكنائس ليتظاهر بداخلها، فمن هذا المكان سيوصل رسالته للكنيسة كي تتحرك وتحمل مطالبه للدولة، التي يشعر بالاغتراب تجاها، والخوف منها، أو ربما تصل في يوم من الأيام للنظام.
ومع مرور الوقت تطورت هذه الظاهرة فبدأ الشباب القبطي يتظاهر خارج الكنائس، أمامها بالتحديد، وهو هنا لا يزال يرى أنه داخل دائرة الحماية المعنوية، إذ يصعب تصور الدخول في مواجهة مع قوات الأمن في هذه المنطقة، وكانت جريمة نجع حمادي ليلة عيد الميلاد 2010، نقطة تحول في هذه المظاهرات، حيث ازدادت المسافة بين مسيرات شباب الأقباط وأسوار الكنائس، ذهبوا حتى مجلس الدولة، مجلس الشعب، نقابة الصحفيين وميدان التحرير،أي أنهم ذهبوا إلى مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني....
نقطة التحول الثانية جاءت مع أحداث العمرانية في نوفمبر 2010، حيث تطورت المظاهرات لتأخذ أشكالا عنيفة عبر الاشتباك مع أجهزة الأمن، قطع الطريق الدائري، والاعتداء على مبنى المحافظة، وهي المرة الأولى في تاريخ مصر الحديث التي يخرج فيها الشباب القبطي في مسيرات تتخللها أعمال عنف ضد مؤسسات ومبان تابعة للدولة.
جاءت نقطة التحول الثالثة في جريمة الإسكندرية ليلة رأس السنة، فإذا كانت الجريمة حملت تطورا نوعيا في بشاعتها وعنفها شكلا ومضمونا، فقد حملت معها أيضا تطورا نوعيا في ردود فعل الشباب القبطي بدأت عقب وقوع العملية مباشرة في الاشتباك مع قوات الأمن، وبرزت ملامحها بقوة إبان الصلاة على " جثامين الضحايا" حيث قاطع الشباب الغاضب ممثل الكنيسة عندما أراد توجيه كلمات شكر لرئيس الدولة، وطلبوا من ممثله مغادرة المكان، واستمر التطور في الظاهرة حتى وصل إلى مظاهرات عامة شارك فيها آلاف الشباب الغاضب، سارت حتى مبنى وزارة الخارجية المصرية ومبنى التليفزيون الرسمي للدولة.
بداية لابد من الإشارة إلى أن قادة المظاهرات وغالبية المشاركين فيها هم من فئة الشباب ما دون الثلاثين من العمر، جيل ولد منذ منتصف السبعينيات، لم يعش تجربة مصر " المصرية" في العقود السابقة، جيل نشأ مع بدء تديين المجال العام في مصر على يد الرئيس السادات، جيل حمل أسماء ما بين القبطية والفرعونية والغربي، جيل نظر إلى أعلى فلم يجد مظلة حماية من الوطن ممثلا في مؤسسات الدولة، فقد سحبت عنه، فأمدته الكنيسة بمظلة بديلة عن مظلة الوطن، جيل نشأ داخل أسوار الكنيسة، فيها تعلم دروسه الأولى وداخلها مارس كافة الأنشطة، أدرك أن الكنيسة باتت هي ممثله أمام الدولة، تركها تتفاوض على حقوقه، وتبرم الصفقات مع النظام...
بمرور الوقت ومع مواصلة سياسات الأسلمة، وشدة وطأة سياسات التمييز الطائفي، تواتر الاعتداءات الطائفية دون تطبيق القانون، بدأ الشباب يتحرك، تحرك أولا داخل الكنيسة وكأنما أراد الضغط على قادتها للدفاع عنه والإتيان له بحقوقه، وكان خروجه إيذانا بكفره بهذه المعادلة، خروجه هو ضد الدولة التي تمارس سياسات التمييز والظلم وتعامله المصالح الحكومية ومؤسسات الدولة على أنه مواطن من الدرجة الثانية، وضد الكنيسة التي ما عادت من وجهة نظرة قادرة على تأمين الحماية له من ناحية أو الدفاع عن مصالحه أمام مؤسسات الدولة "الطائفية " من ناحية ثانية.
من هنا يمكن القول أن مظاهرات الشباب القبطي كانت بمثابة خروج على الدولة والكنيسة معا، ولذلك لو تأملنا في ردود فعل الدولة والكنيسة معا تجاه هذه المظاهرات التي قادها هؤلاء الشباب سوف نجد قاسما مشتركا موضوعيا بينها، كلاهما يخشى التداعيات، الدولة تخشى التعامل مع جيل تحرك خارج الكنائس، خرج كمصري يطلب حقوقه المهدرة عند الدولة، والكنيسة التي ما عادت الممثل السياسي لهذا الجيل عند الدولة، الخروج يضرب المعادلة القائمة بين الكنيسة والدولة منذ منتصف السبعينيات.
الجيل الجديد والخروج إلى العمل العام
تبلورت ملامح الجيل الجديد من الأقباط مع زيادة معدلات الاحتجاج ضد نظام مبارك، فتزايد التواجد في حركات " كفاية" و" 6 أبريل" كما تفاعلوا بنشاط مع حركة "كلنا خالد سعيد"، وما إن خرجت مظاهرات الخامس والعشرين من يناير حتى وجد شباب الأقباط مجالا جديدا للعمل السياسي، فشاركوا في هذه المظاهرات، لم يتوقفوا كثيرا أمام تحفظ الكنيسة على المشاركة، ولم يستجيبوا لضغوط بعض رجال الدين بعدم الذهاب إلى ميدان التحرير، ذهبوا إلى هناك، عبروا جسور الطائفية، قفزوا فوق أحزان وآلام جرائم نجع حمادي وكنيسة القديسين، صلوا ورتلوا في الميدان، وقدموا الحماية " الرمزية" لأشقائهم المسلمين إبان الصلوات، دفعوا ضريبة الدم في التحرير ضمن دماء مصرية سالت، ودفعوا ضريبة دم خالص أمام ماسبيروا عندما دهستهم المركبات العسكرية وتلقوا الرصاص في الصدور، وما " مينا دانيال " إلا إيقونة من إيقونات الثورة المصرية مع غيره من شهداء محمد محمود ومجلس الوزراء وبورسعيد، بعد التحرير وماسبيرو لم يعد أحد في بر مصر يتساءل عن أسباب سلبية الأقباط، فما عادوا كذلك.
تصاعد نشاط الجيل الجديد من الأقباط واستقرت مظاهراته أمام مؤسسات الدولة المصرية مطالبا بتكريس قيمة المواطنة، المساواة، والقضاء على كافة أشكال التمييز التي عانت منها الأجيال السابقة، لم يتسامح مع ظواهر تكررت كثيرا منذ منتصف السبعينيات وحتى نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، غضب بشدة للاعتداء على كنائس، كما تداعى للتعبير عن رفض كافة أشكال التمييز، تجاوز حرص الأجيال السابقة على مساحة المشترك بين المصريين، لم يجعل من هذه المساحة عائقا أمامه، في لحظة تالية بدأ ينظر إلى المعادلة التقليدية التي كانت قائمة في شكل توافق الدولة والكنيسة أو سعي رجال الكنيسة إلى ضبط أفعال هذا الجيل بتفاهم مع مؤسسات الدولة، بدأ ينظر إلى هذه المعادلة على أنها تمثل قيدا شديدا على حركته وتطلعه إلى استعادة حقوق المواطنة والمساواة، هنا بدأ يعود مرة أخرى إلى الكنيسة لا كي يدخل أسوارها من جديد ويحتمي بها، بل كي " يثورها" حتى تتوافق مع تطلعاته.
بدأ الجيل الجديد من الأقباط يطالب رجال الكنيسة بعدم وضع قيود على حركته ونشاطه، يطالبهم بالتركيز على الشق الروحي، وترك ما هو سياسي وعام له ولغيره من المدنيين أو العلمانيين حسب التعبير الكنسي ( والذي يعني كل من لا يرتدي زي الكهنوت من المسيحيين). نظم أبناء هذا الجيل من الأقباط أنفسهم في عشرات المنظمات والحركات والهيئات والاتحادات، شأنهم في ذلك شأن أي جماعة بشرية ينفتح أمامها طريق العام بقدر أكبر من الديمقراطية. وفي أواخر فترة البابا شنودة الثالث، ورغم ما كان يحظى به من تقدير واحترام لدى أجيال الأقباط المختلفة، ظهرت بوادر تمرد على المعادلة التقليدية بين الكنيسة ومؤسسات الدولة، ففي تأبين ضحايا كنيسة القديسين رفضوا قبول التعازي من ممثلي الدولة، قاطعوا سكرتير البابا حينما أراد توجيه الشكر لمبارك، وفي الصلاة على ضحايا " ماسبيرو" هتفوا داخل الكاتدرائية وفي وجود البابا " يسقط يسقط حكم العسكر"، وتكرر الهتاف بقوة إبان صلاة عيد الميلاد الأخير للبابا عندما وجه الشكر للحاضرين من أعضاء المجلس العسكري، فكان الهتاف مدويا بأن "يسقط يسقط حكم العسكر".
وعندما تأخرت الكنيسة المصرية في سحب ممثليها من الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، وتخلفت على اللحاق بركب قرار الأزهر، غضب الشباب القبطي وطالب الكنيسة بسرعة سحب ممثليها، لم يقبل ما سيق من مبررات أو ما ذكر من إجراءات بيروقراطية، هدد بتنظيم مظاهرات ضخمة تتجه إلى الكاتدرائية من أجل الضغط على رجال في الكنيسة حافظوا على خيوط إتصال مع مؤسسات وقوى في الدولة وفق المعادلة التقليدية.
تلقف المجلس الملي ( وهو المجلس المكون من علمانيين بالتعبير الكنسي ويمثل حلقة وسيطة بين الكنيسة وشعبها) صيحات الشباب الغاضب على عدم سحب الكنيسة لممثليها في الجمعية التأسيسية، وقام ببلورة موقف وطني مسئول، فأعلن سحب الكنيسة لممثليها من الجمعية، ووجد من كان يعمل وفق المعادلة القديمة من رجال الكنيسة أن العاصفة أشد من أن يتم مواجهتها، فلملموا أوراقهم وغابوا عن المشهد ولو مؤقتا.
وكان واضحا أن قائم مقام البطريرك، الأنبا باخوميوس، أقرب إلى منطق ورؤية الجيل الجديد من الأقباط، فأطلق من التصريحات ما يشير إلى عدم رضا الكنيسة على طريقة تشكيل الجمعية التأسيسية، كما أن زيارته للأزهر، ولقائه من الإمام الأكبر بعد قرار الإنسحاب، وإعادة تأكيد الأزهر على مقاطعته للجمعية، تفيد بأن الأنبا باخوميوس يتحرك وفق رؤية أقرب إلى نسف المعادلة التقليدية التي كانت تلعب في الكنيسة الدورين الروحي والسياسي، فللكنيسة الدور الروحي، وللأبناء من العلمانيين– وفق التعبير الكنيسي السابق الإشارة إليه- السياسة، دون أن تنقطع خيوط التواصل والتفاهم بين ما لله (العمل الروحي) وما لقيصر (السياسة)، وفي تقديري أن هذا الجيل من الاقباط ستكون له مساحة دور أكبر في تحديد معالم علاقة الكنيسة بالدولة، وسيزداد هذا الجيل صلابة وحضورا كلما رأى إصرار البعض على تهميشه أو على عدم الاعتراف بهويته ومواطنته كاملة، في ظل الصعود الإسلامي الواقع اجتماعيا أو سياسيا، ومتى غابت الرشادة عن إدارة العلاقة مع مكونات المجتمع المصري وقواه المدنية من جهة أخرى
تنوية هام: الموقع غير مسئول عن صحة أو مصدقية أي خبر يتم نشره نقلاً عن مصادر صحفية أخرى، ومن ثم لا يتحمل أي مسئولية قانونية أو أدبية وإنما يتحملها المصدر الرئيسى للخبر. والموقع يقوم فقط بنقل ما يتم تداولة فى الأوساط الإعلامية المصرية والعالمية لتقديم خدمة إخبارية متكاملة.