الأقباط متحدون - إلى أقباط مصر
أخر تحديث ١٣:٢٤ | الأحد ٨ يوليو ٢٠١٢ | ١ أبيب ١٧٢٨ ش | العدد ٢٨١٥ السنة السابعة
إغلاق تصغير

إلى أقباط مصر

بقلم- صبرى فوزي جوهرة
كففت عن الكتابة لفترة غير قصيرة، ولم يكن ذلك لانقطاع الوحي، فأنا إنسان غلبان ليس لي ورقة بن نوفل، بل كان التوقف لآن آخرين من المصريين عامة والأقباط خاصة, ومن العديد من الأجانب أيضًا, كانوا يتجشمون عناء التعبير عما يتلاحق من الأحداث في "مصر". تعددت وتنوعت أقوالهم، إلا أن هناك أمرين لم أستطع الصمت حيالهما طويلًا, وإن كنت قد حاولت, وهما كتابة دستور مصر الجديد واختيار بابا الإسكندرية الثامن عشر بعد المئة.

عن الأول، أذكّر الأقباط بمدى قوة وجودهم في "مصر"، وأحثهم على عدم التقاعس بل السعي الحثيث لانتزاع حقوقهم من مغتصبيها، ومن يعملون على سلبها أو تجاهلها. على الأقباط الوقوف بلا خوف ولا وجل، معبرين بقوة وصراحة ووضوح عما يريدون لمصر ولهم. ليتذكروا أولًا أنهم الورثة غير المتنازع على شرعية امتلاكهم لتراث "مصر" وضميرها الحقيقي غير المزيف. ما تفوه أحد منهم يومًا ببذائة (أو تطزيزه) على بلادهم، ولا وطن لهم  ولا ولاء سوى لمصر. إنهم من الشعوب القليلة جدًا التي تحمل هويتها اسم بلادها. حفظ الله مسيحيي مصر من الفناء بالرغم من انقراض باقي مسيحيي شمال أفريقيا, لغرض علوي هو الحفاظ على أرض الكنانة من أن تبتلع في جوف التنين.

وبالرغم مما عُرف عن الأقباط من اللجوء للصوم والصلاة, وما أنجعهما في التصدي لأمورالعالم, إلا أن الرب يتوقع منا أن نعمل نحن أيضًا حتى نصبح جديرين برعايته ونصرته للتغلب على المهالك المحيطة بنا. في هذا المجال، أعيد إلى ذاكرة الأقباط الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وكيف أنهم بلا وحدة  تجمع صفوفهم أو قيادة سياسية تعبر عن حقوقهم وتطلعاتهم ورغبتهم في التقدم ببلادهم, كادوا أن ينجحوا في تغيير مسار التيار الجارف الذي أدى إلى النتائج الحالية. لقد سمع العالم بأسره بكم، وتعرف عليكم وعلى مأساتكم في وطنكم، وتعاطف معكم بقوة. فما بالكم لو اتحدت قواكم بعضكم مع البعض ومع المستنيرين الآخرين من أبناء "مصر" من غير المسيحيين للحفاظ على هوية "مصر" ودرء خطر الطاعون الوارد من الشرق عنها.

يجدر بالأقباط أولًا, كموقف مبدأ, رفض إضافة المادة الثانية السامة إلى الدستور الجديد رفضًا تامًا، حتى لا يجيىء كاذب أو مضلل أو موتور في المستقبل ويدَّعي أن الأقباط قد "قبلوا ورحبوا بالشريعة الإسلامية"، كما يدَّعي البعض اليوم بأن أسلافنا قد دعوا حفاة جزيرة العرب لتخليصنا من اضطهاد الرومان!.

الأوطان لا دين لها. لم نسمع بعد عن "باكستان" أدت فريضة الحج، أو "أفغانستان" تدفع زكاة (ناهيك عن الشحاتة من كفرة الأطلنطي والتمسك بهم فى بلاد الإسلام منعًا للانهيار التام إذا ما انسحبوا منها). ثم أن "مصر" هي مصدر الأديان و منبعها, فهل يعقل أن يتبع المصدر الفرع؟ ألم يأت إبراهيم من بلاده إلى مصر لينهل من حضارتها وديانتها؟ ألم يتعلم الختان (الذكور فقط يا حاجة أم أيمن) الذي أصبح يميز أبنائه إلى اليوم عن باقي الشعوب من المصريين؟ بل أنه ختن ذاته بعد أن عاد إلى بلاده وهو في الثمانين من عمره تمثلًا بكهنة مصر ونبلائها. هل كان الختان فقط هو كل ما تعلم من المصريين دون باقي العادات والأفكار والعقائد؟ هل يستطيع إنسان ما في عالم اليوم أن يتجنب تأثير وحضارة الولايات المتحدة الأمريكية حتى وإن عاش بعيدًا عنها؟.

هكذا كانت مصر في زمن "إبراهيم"، رائدة الحضارة والتقدم في العالم. وماذا عن موسى الأمير المصري الذي نشأ في بلاط فرعون وتهذب بكل حكمة المصريين، فأصبح أعظم مشرعي الإنسانية قاطبة، وهو الذي وضع الناموس الأول الذي لم يكتمل إلا بعد ملء الزمان بأقوال الإله المتجسد ذاته، بعد أن نضجت الإنسانية واستعدت وتحضرت؟ من من البشر من كان أول من  نادى بوحدانية الله سوى فرعون مصر العظيم "أخناتون"؟ مصر هي أم الدنيا، وصانعة الضمير الإنساني, هل قدر لها أخيرًا أن تلتف بعباءات العنصرية والعنجهية والهمجية، وتلهث خلف شرائع غريبة مستغربة تمحو هويتها وتخبئ أضواء روحها الجميلة المشرقة؟ إن في روح مصر وتاريخها وحضارتها ما يجعلها غنية عن أي فكر أجنبي مبتسر. من هنا جاء منطق رفض صبغ مصر بديانة أو أخرى. مصر هي من علمت الإنسان الدين, وهي تعلو عن أن يُدعى عليها دين واحد.

وقد يُقال أن الأمر لا يتعدى أن يكون "سياسة"، وبالتالى وجب التوافق على أنصاف حلول حتى لو بدت هزيلة بلهاء، وعدم التصلب في الموقف والفكر، فجوهر السياسة هو التوصل إلى أنصاف الحلول وقبولها، ولو على مضض. ومن ثمة, فلينص الدستور الجديد على ما ابتليت به "مصر" في دستور "السادات" الملغي دون الإضافات النكراء التي يسعى إليها السلفيون، والتي ستهوى بمصر إلى ما تحت الحضيض. وعليه, وتبعًا لتقاليد أنصاف الحلول في السياسة، من الممكن إضافة النص الساداتي القديم إلى الدستور الجديد كما هو دون تغيير، وكفى الله المصريين شر القتال! هذا الحل غير منطقي في نظري كجراح. فعندما يعمل الطبيب مبضعه في المريض بغرض شفائه, وهو هنا مثل الهدف من كتابة دستور جديد غير ملوث يؤدي إلى تقدم البلاد ورخائها, فهو يسعى إلى إزالة واستئصال كل ما هو متقيح وضار بجسد المريض الذي ائتمنه على العناية بة, وبالطبع, لم أر ولم أسمع في حياتي المهنية عن  جراح يدفن "حتة شغت ميتة" في الجرح بعض تنظيفه، لمجرد أن تكون "فاسوخة"، ربما لغرض إبعاد العين عن المريض المتعافي!.

وماذا عن القول بأن يُحكم مسلمو "مصر" بالشرع الإسلامي ومسيحيوها بالشريعة المسيحية؟ هبل لا داعي له! فليس هناك مسلم يستطيع أن يتزوج خمسة نساء، ولا مسيحي يستطيع أن يشرد زوجه بمجرد نطق "سامي" بالطلاق!  ثم ماذا لو قام خلاف بين مسلم ومسيحى؟ أي الشرائع ستطبّق؟ هل سيستحل دم مسلم قتل مسيحي كما كان الأمر في العقود الساداتية والمباركية، بل وإلى الآن؟ هل ستتغلب شريعة على أخرى لأن الدين عند الله الإسلام (وبس)؟ وبماذا سيستنير القضاء الذي اُخترق في الماضي لصالح الحاكم الفاسد، والذى اتنبأ له "بالقضاء" على البقية الضئيلة الباقية غير المخترقة منه تحت الحشد والمناورات الإسلامية المتحفزة لتطويعه, مع التعليم, تمامًا بهدف الإخضاع التام "للفكر" الإسلامى المتطرف، والعمل الدؤوب على إعادة الخلافة الإسلامية؟.

الموضوع أصبح مثل طبق الاسباجتتي، تشابكت فيه شعرات المكرونة في هرجلة لا تفسير لها ولا داعى، لا تنتهى ىسوى بابتلاع ما في الطبق بأي طريقة!.

الحل المنطقي الحضاري, وهو ما يجب أن يصر عليه الأقباط وحلفاؤهم من المصريين الآخرين, هو "شريعة مدنية صرفة"، يتساوى فيها جميع أبناء الوطن بلا أي استثناء أو فروق، ويتراصون الواحد تلو الآخر للعمل على تقدم البلاد ورخائها، ذلك العمل المضني الجاد الذي ينتظر كل مصري محب لبلاده وذاته وأولاده. توقف التقدم في "مصر" وتراجع لستة عقود مهينة من الزمان. "هو مش كفاية علينا الوقت الذي أهلكناه سعيًا وراء الخيالات والخرافات والعنتريات؟".. لنتذكر أن الزمن هو العنصر الوحيد الذي لم يستطع البشر (حتى المتحضرين منهم بالمناسبة) إعادته إلى الوراء؛ ففى استطاعة الإنسان استعادة صحة اضمحلت، أو وظيفة أُنهيت، أو مال أُهدر، أو حب فُقد، أما الزمان فإن لم تقطعه مزقك.

على الأقباط الإعلان الواضح الشجاع عن مبدأهم الأولي، وهو الإصرار على عدم احتواء الدستور الجديد على أي سم قد يضفي على أم الديانات دينًا بعينه، فيكون موقفهم هذا شهادة للتاريخ بأننا لا نقبل اختزال "مصر" في ديانة أو أخرى. صانعة الأديان قاطبة لا يمكن أن تحتوى في أزقة دين واحد. فإذا أُجبروا على التنازل عن هذا المبدأ الجوهري لقلة أعدادهم أو تحت التهديد الثلاثي المشؤوم الشهير (الإسلام أو السيف أو الجزية), فأكثر ما يستطيعون التنازل به هو قبول النص الساداتي على مضض، مع إضافة واضحة تؤكد مساواة المواطن المسيحي مع مواطنه المسلم تمامًا وبلا أي استثناءات أمام الدولة، وفي ساحات القضاء خاصة.

أما الأمر الآخر الذي أعرضه على إخوتي في مصر والمهجر، فيتعلق بانتخاب البابا الجديد. فلنعزف تمامًا عن انتخاب أي مرشح سارع في أن "يتزكى"، وكان من أوائل الراكضين إلى المنصب بعد نياحة أنبا "شنودة"، وفي عصر سيشهد فيه الأقباط ضغوطًا غير عادية للإنهاء على وجودهم في بلادهم. يتحتم علينا عدم الانقسام والتشرذم، وبالتالي الابتعاد عن أي مرشح ينقسم الأقباط حول صلاحيته بين مؤيد ومعارض من قبل اعتلائه الكرسي الرسولي. الحمد لله، ربنا مكتر ومبارك في أعداد المرشحين، فلا داعى أن نجازف "من أصله" بالسماح لعنصر تفرقة أن يكون موضع اختيار أو رفض. فإن نجح, فسيبدأ "حبريته" بتفكيك وحدة الأقباط الهشة أصلًا- وكأنهم ناقصين- وبالتالي قدرتهم على التصدي لأعدائهم، كما أنه سيصبح هو أيضًا هدفًا سهلًا لضغوط الدولة وإغرائها وابتزازاتها. طبعًا هناك من سيقول إن الله لن يسمح بما يضير بيعته, ولكن لماذا لا نقوم بواجبنا نحو أنفسنا أولًا قبل أن نستجلب رحمة الله علينا؟ في شىء من المبالغة أقول: ألم يرغب أحد المسلمين المتعصبين في الترشيح للكرسي البطريركي (وطلع في قناة تلفاز مسيحية وقاوح بشكل مفزع وكاد أن يعتدى على دكتورة عايدة نصيف؟) ما سيبناهوش ليه وقلنا ربنا يختار اللي عايزه؟ العبد لله يعتقد أن ربنا لا يساعد الأغبياء.

عايزين دليل أكثر من انتخابات مجلس الشعب المنحل والرئاسة؟ لنتذكر أن الدولة ليست بصديقة للقبط. علينا كذلك أن نتجنب اختيار من كانت لهم أطماع في التعامل مع الدولة في شئون السياسة باسم الأقباط، وليخرج الأقباط من طفولتهم السياسية، خاصةً بعد أن زال عنهم الخوف- أو كاد- وأثبتوا بشهادة العدو قبل الصديق أن لهم كتلة مؤثرة في مصير البلاد، وأصبح مرشحو الانتخابات الرئاسية يتوددون إليهم ويسعون للحصول على قبولهم حتى تحت ظروف شرذمتهم وغياب قيادة مدنية مخلصة وفعالة تقودهم وتمثلهم وتعبر عن طموحاتهم. يجب أن ننهي مقدرة الدولة على العصف بالأقباط عن طريق تهديد وابتزاز الرئاسة الكهنوتية. لن تستطيع الدولة لي ذراع عشرة ملايين من الأقباط، بينما يسهل عليها جدًا تهديد الرئاسة الدينية واستغلال مخاوفها من زيادة الاضطهاد إن لم توصي "أبناء الطاعة" بالسير إلى السلخانة حتى "تحل عليهم البركة"! يجب علينا تجنب كل من كانت لديهم "ملفات" في أمن الدولة لأسباب سلوك شخصي غير لائق بشرف وقدسية الكهنوت، أو تتعلق بالتعامل في الماضي مع هؤلاء المفسدين المجرمين من زبانية الحكم. هنا يقع العبء الأكبر على عاتق حضرة صاحب النيافة أنبا "باخوميوس" وأعضاء لجنة الترشيح من الإكليروس والمدنيين المطلعين على نقائص وفضائح من لا يصلح لهذا المنصب الرفيع والخطير. أمثال هؤلاء يجب أن يستبعدوا دون تردد أو خوف أو محاباة، وإن لزم الأمر لنتقبل كشعب عدم الإفصاح عن أسباب الإبعاد حفاظًا على هيبة الإكليروس ووحدة الكنيسة.

لعل الله قد أبقى على أقباط مصر ليحفظوها ويعيدوا لها أمجادها. إنه يحب شعب مصر, فإلى أرضها لجأ ابنه الوحيد، وحافظ مسيحيوها على الإيمان المستقيم المعطى إليهم من الرسل ومن الآباء الأولين.


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter