سليمان شفيق
ينتهي عام 2020 بعداحتفلت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالذكري الثامنة على تجليس قداسة البابا تواضروس الثانى، البابا 118 فى تاريخ الكنيسة، تلك الكنيسة العريقة التى تعد من أقدم المؤسسات فى مصر والعالم، فقد شاركت فى مقاومة الاحتلال اليونانى والرومانى والعثمانى والفرنسى والبريطانى.. إلخ، وشاركت فى بناء الدولة الحديثة، وشاركت فى ثورة 1919، وكان الأنبا يؤنس البطريرك من المشاركين فى صياغة دستور 1923، وكان بيان الكنيسة 1952 هو الثانى فى تأييد ثورة يوليو بعد بيان جامعة الإسكندرية، ووقفت الكنيسة بقيادة البابا كيرلس السادس مع الحق المصرى فى تحرير الأرض بعد هزيمة يونيو 1967، وعارض البابا شنودة الثالث الراحل السادات فى زيارته للقدس، مما تسبب فى احتجازه فى دير الأنبا بيشوى، هكذا جسدت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كل معانى الوطنية، ولذلك لم يكن غريبا أن تبرز وطنية البابا تواضروس الثانى فى ثورة 30 يونيو، وأن تكون الكنيسة أحد أعمدة الثورة، جنبا إلى جنب مع الأزهر الشريف والقوات المسلحة والشعب، وحينما حرق الإرهابيون الكنائس وممتلكات الأقباط، وقتلوا من قتلوا، قال البابا تواضروس: «هذا ثمن الحرية»، وتعرض البابا إلى ما لا يتعرض له باباوات فى القرن الماضى من ملاحقة واختفاء بين الأديرة ووضع أمامه الكثير من المهام الصعبة، مطلوب منه أن يشارك فى إعادة بناء الدولة، وأن يحاول تحقيق استحقاقات الكنيسة والأقباط، داخل الكنيسة مطالب أن يجد حلا للائحة 1938 ويحصل مع الكنائس الاخري علي قانون الاحوال الشخصية لغير المسلمين ، وأن يجدد المجلس الملى، وأن يفصل بين الكنيسة والسياسة، فى نفس الوقت شارك بالكنيسة فى صياغة الدساتير، وأن يدفع الأقباط للمشاركة الإيجابية فى تحقيق خارطة الطريق من التصويت على الدستور، والمشاركة الإيجابية فى الترشيح والانتخاب فى مجلسي النواب والشيوخ، وأن يطالب بتمثيل عادل للأقباط دون حصحصة أو «كوتة»، وأن يصلح الكنيسة من الداخل، وان يفتح المجال للحوار حول الاصلاح ، وان يتحمل بعض الاراء المعارضة التي تصل الي حد التجريج ، رغم كل تلك الصعاب لا تفارق البابا ابتسامته.
نحن امام بطريرك يشهد مالم يشهدة غيرة من البطاركة منذ تأسيس مصر الحديثة .
ومنذ عودة البابا شنودة الثالث من احتجازه بالدير 1985.. صار هناك ما يشبه الصفقة، يحكم مبارك الدولة دون تدخل الكنيسة، ويحكم البابا الكنيسة دون تدخل الدولة. ورث قداسة البابا تواضروس الثانى هذا الوضع ، الأمر الذى جعل بعض الأجيال الجديدة خاصة المرتبطة بالمناخ السابق تنتقده، تارة لسفرياته للخارج، وأخرى لاختلاط الأمر فى أذهانهم بين الدور الوطنى والدور السياسى للكنيسة، بالطبع لا تعرف هذه الأجيال أن الكنيسة شاركت فى تأسيس مصر الحديثة، ففى عام 1804 كان البابا مرقس الثامن بصحبة المعلم إبراهيم الجوهرى مع الإمام الأكبر شيخ الأزهر محمد الشرقاوى يؤازرون الشريف عمر مكرم فى الإطاحة بالوالى العثمانى خورشيد، وتثبيت محمد على حاكما لمصر الحدثية، الأمر الذى تكرر بين كيرلس الخامس وعرابى 1882، ومع ثورة 1919 ومع ثورة 1952، لذلك لم يكن غريبا أن نجد الكنيسة فى الصدارة فى 3 يوليو 2013، ومن ثم لم يكن غريبا أيضا أن ينفى قداسة البابا شنودة الثالث إلى الصحراء حينما رفض التطبيع مع العدو الصهيونى، وعارض السادات سياسيا، كل تلك الأدوار العظيمة للكنيسة الوطنية لا يفهمها الأجيال التى تربت على الأعمال المنافية للعقل، التى تفصل بين الأرض والسماء، بين الكنيسة والوطن
لذلك جاء البابا تواضروس الثانى بوطنيته المفرطة خير خلف لخير سلف، ونحن بالطبع لا ندعوا الي مصادر انتقاد العلمانيين للكنيسة للأكليروس ولا لقداسة البابا، ولكن نتعجب من سيادة اللاعقلانية فى النقد، حينما يسافر البابا لتفقد حوالى 5 ملايين قبطى أرثوذكسى فى مختلف قارات العالم، فهذه إضافة وليست خطيئة، والذين يولولون الآن ضد سفر البابا للخارج كأنهم لا يثقون دون وعى فى إدارة الأساقفة والمطارنة والكهنة المحليين فى الإيبراشيات فى غياب البابا.
حينما يقول البابا «الوطن قبل الكنيسة»، فهو يعنى أن الوطن والكنيسة توأمان ملتصقان، فلا وطن بدون كنيسة ولا كنيسة بلا وطن، والذين يحتسبون أن ذلك خطاب سياسى، فهم لا يدركون الدور الوطنى للكنيسة. ولا يدركون تضحيات الأقباط منذ 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، وحتى الآن.
الا اننا نتمني من قداسة البابا بناء دائرة للحوار وفق اليات جديدة تتخطي المفهوم "العثمانلي" للمجلس الملي بالانتقال الي عصر المواطنة ، وخلق مركز ابحاث لدراسة ما يجري في العالم والاقليم ومصر وتحديد اليات للتحديث والاصلاح دون الصدام مع الموروث ، لانه لم يعد صالحا ادارة الكنيسة الجامعة المتواجدة في اكثر من مائة دولة بنفس اليات واساليب القرن العشرين التي انتهي عمرها الافتراضي ، والا سوف تؤدي المحافظة والمركزية الي اللامركزية وصولا الي الاستقلال الاداري والثقافي واللغوي .
تحية لقداسة البابا تواضروس الثانى على أدواره الوطنية المختلفة، ولا خلاف مع من ينتقدونه بشرط أن يعلموا ماذا يفعلون، وستظل الكنيسة فى مقدمة الصفوف من أجل الوطن.