نجتاز يقينا تجربة متفردة بانتقالنا من نظم شمولية عاتية إلي نظام يتلمس طريقه إلي الديمقراطية.
وكأننا نعبد طريقا بين الأحراش وسط حالة من التطلع المتعجل لاستقرار طال انتظاره, وترصدات من داخل ومن خارج, وشكوك زرعت بليل ألقت بظلالها علي العلاقة بين الأطياف السياسية المختلفة وكادت إلا قليلا تطال الاندماج الوطني, وخبرات تتكون ببطء نحو وضع أساسات الدولة المدنية الحديثة تتنازعها رؤي غائمة يشتبك فيها الديني مع السياسي, والراديكالي بالثوري.
وننتقل من صراعات الانتخابات الرئاسية التي شهدت أيضا حالة من التفرد وقد نجحنا فيها بامتياز وضعنا في مصاف الدول الأعرق ديمقراطيا لنختبر مذاق التنافس والترقب حتي آخر لحظة, ننتقل إلي التعاطي مع رئيس منتخب تسبقه الي سدة الرئاسة مسئوليات جسام وملفات ملتهبة وأجواء متوترة وتطلعات شعبية وصراعات بين اطياف مختلفة تتجاوز قدرات الفرد وتفرض عليه أنساقا مختلفة في إدارة المشهد, لعل أهمها الانتقال من الفرد إلي المؤسسة, ويبدو أن الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي قد أدرك ذلك فشرع في تكوين فريق رئاسي متجاوز للتقليدية, ومتجاوز لسقف ما وقر عند بعض اطياف الإسلام السياسي, بتبني تعيين نواب للرئيس منهم قبطي وامرأة وشاب, مؤكدا أن وجودهم يتجاوز التمثيل التقليدي الي المشاركة في السلطة وهو أمر يرتبط مباشرة بصلاحيات هؤلاء النواب وتفعيل دورهم في رسم المشهد السياسي.
وانتبه الرئيس في سياق إعادة ترتيب أوراق بعثرتها المعارك الانتخابية إلي وجوبية التأكيد علي حق شركاء الوطن ـ المصريون المسيحيون( الأقباط) ـ في الوجود والمشاركة عبر حزمة من التصريحات التطمينية في مواجهة تداعيات سلسلة من تصريحات بعض من أطياف التيارات الراديكالية عبر مرحلة الانتخابات التي قذفت الأقباط بوابل من الرسائل الملغومة تعيد إنتاج مشروعهم الإقصائي والاستعلائي, فضلا عن الحديث عن دولة الخلافة المنتظرة والتي يتحول فيها الأقباط من مواطنين إلي رعايا, الأمر الذي يتهدد مواطنتهم وينتقص من حقوقهم وربما يتهدد وجودهم. ويعظم من شأن هذه التطمينات أنها تأتي وفي الذهنية القبطية خبرة مؤلمة كونتها أعمال إجرامية استهدفتهم امتدت من احداث الخانكة( القليوبية)1972, وحتي احداث الماريناب( أسوان)2012, مرورا بنجع حمادي والكشح وصول بأطفيح وغيرها, وفي أغلبها بادرت تيارات جهادية وأصولية بإعلان مسئوليتها عنها في حينها.
ونحن نثمن ونقدر مبادرة التطمينات هذه في سياق السعي العام لبناء جدار الثقة وتفعيل التكامل ودعم مؤسسة الرئاسة كواحدة من أهم مؤسسات الدولة المدنية, وقد يكون الرئيس مطالبا بألا يلتفت لأصوات تغرد خارج السرب وقد تجاوزها التاريخ ولا يحتملها الحاضر فيما تهدد المستقبل, والتي كانت آخرها تصريحات أحد أهم كوادر وقيادات الدعوة السلفية في فتوي يؤكد فيها عدم جواز تولي قبطي موقع نائب الرئيس باعتباره موقعا يدخل في توصيف الولاية الكبري, ليعيدنا مجددا إلي دوامة جدل كان ثمنه فادحا, وربما يكشف عن طبيعة المخاطر التي تنتظر الرئيس من هذا الفصيل المفارق للحداثة وحركة التاريخ.
وربما ينبهنا هذا إلي الحاجة للانتقال من مربع التطمينات والمدعومة بالنيات الحسنة إلي مربع التفعيل علي الأرض ولعل مدخلنا إلي ذلك يكون من خلال الوثيقة الكبري التي تضبط إيقاع المجتمع وتضبط التوازن بين السلطات وتؤكد منظومة الحريات العامة والحقوق المؤسسة علي المواطنة, والواجبات المقابلة وضوابط حماية مدنية الدولة, وأعني وثيقة الدستور, ومن خلالها تتحول التطمينات إلي فعل علي الأرض وننتقل بعدها الي وضع ضمانات تفعيل الدستور الي حزمة من القوانين تترجم كل هذا. ويستوجب هذا اعادة النظر في تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور والتي جاءت في تشكيلها الثاني محملة بنفس عوار التشكيل الأول مما ينبئ بإنتاج مشروع دستور معيب لا يحقق طموحات التوافق الوطني وينعكس سلبا علي وضعية الأقباط وحقوقهم كمواطنين مصريين بالأساس.
وقد يكون من الأهمية بمكان في هذا السياق استدعاء وثائق الأزهر الثلاث واعتمادها كمدخل مؤسس وحاكم لوثيقة الدستور وعلي رأسها وثيقة الأزهر بشأن مستقبل مصر الصادرة في20 يونيو2011, والتي تضمنت أحد عشر بندا أكدت تأسيس الدولة المدنية الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة, واعتماد النظام الديمقراطي الحر القائم علي الانتخاب الحر المباشر, والالتزام بالحريات الأساسية, ثم البيان الصادر عن الأزهر في10 يناير2012 تحت عنوان رؤية الأزهر والمثقفين لمستقبل مصر, والذي يؤكد حرية الفكر والإبداع وفق القيم المصرية, والمتضمن دعوة الإمام الأكبر الشعب المصري وكل القوي الوطنية إلي الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار واجتناب التكفير والتخوين وعدم استغلال الدين لبث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين.
وعلي المدي البعيد يحتاج الأمر إلي تجفيف المنابع التي تنطلق منها ثقافة التطرف والطائفية والتي وجدت لها مكانا في آليات تشكيل الوجدان الجمعي والذهنية الشعبية, والتي لا يجدي معها مجرد النيات الحسنة أو الارتكان الي تغليظ العقوبات علي من يسعي لتقويض السلام الاجتماعي أو يكرس للتمييز العنصري علي اساس ديني, رغم أهمية الحسم القانوني والقضائي, إذ يتوجب مراجعة آليات التعليم والإعلام والثقافة, ولعلنا نلحظ إصرار التيار السلفي علي الاستحواذ علي حقائب التعليم والشئون الاجتماعية والصحة باعتبارها مداخل السيطرة علي مفاصل الذهنية العامة والشارع, وفي ظني أن تلك الآليات الثلاث ـ التعليم والإعلام والثقافة ـ تحسب في حوزة الأمن القومي, وتحتاج إلي حمايتها من الاختطاف المتشدد والطائفي.
وفي استكمال مشهد الانتقال من التطمينات إلي الفعل علي الأرض بات من الضروري إعادة الحياة إلي منظومة الأمن بإخراجه من حالة التجميد غير المبرر, بكامل صلاحياته في اطار القانون, حتي لانترك الشارع تحت سيطرة التنظيمات البديلة بمسمياتها المختلفة التي تتمرن وترتب صفوفها اختباء خلف حماية المليونيات والمشاركة في حفظ الأمن والتي قد تتحول يوما إلي ميليشيات لحساب تيارات بعينها يمكنها ان تفرض انحيازاتها من خلالها, وتستدعي عبرها تجارب لبنان وفلسطين بين غزة والضفة.
يبقي أن الضمانة الحقيقية للأقباط في هذه المرحلة الدقيقة هي تأكيد انتقالهم من مجرد الوجود في المشهد السياسي إلي المشاركة الفعالة والجادة في السلطة كونهم مكونا أساسيا في الوطن ويسهمون علي الأرض في رسم مستقبل مصر.
نقلاً عن الأهرام
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع