قصة قصيرة

بقلم : نجيب محفوظ نجيب .

رغم مضى السنوات و مرور الأيام، لم تتح لى يوما فرصة أن أتحدث معها، ليس لأننى غير مهتم أو دائما مشغول، لكن لأنها لا تتحدث. هى ليست صماء و لكنها أختارت أن تؤثر الصمت.

هى سيدة فى العقد الثامن من عمرها، شعر رأسها يغطيه اللون الأبيض بالكامل، عينيها زرقاوتين، نظراتها حادة و مركزة على النافذة و كأنها مترقبة أو تنتظر شىء ما سوف يحدث.

أتردد على المكان منذ سنوات طوال، أعرف كل من يعيشون فيه عن قرب.
حاولت مرارا أن أجعلها تتكلم أو تفصح لى عن قصتها و لكنها تأبى أن تنطق كلمة واحدة.

سألت من يعيشون معها : من هى و ماهى حكايتها ؟

جاءنى الرد : نحن لا نعلم عنها شيئا. فإن أردت أن تعرف عليك أن تنتظر سيدة تأتى لزيارتها مرة كل شهر .

لم يكن أمامى سوى الإنتظار.


و فى أحد الأيام جاءنى إتصال تليفونى : السيدة التى تنتظرها قد جاءت.
ذهبت و الأسئلة تتصارع فى ذهنى.
رحبت بها و عرفتها بنفسى ثم سألتها كل الأسئلة التى أريد أن أعرف إجاباتها عن هذه السيدة المسنة الصامتة.

بدأت السيدة تحكى بعد أن عرفت نفسها هى الأخرى، فهى جارة هذه السيدة و كانت تسكن الشقة التى توجد أمام شقتها.

قالت : هذه السيدة هى أم لخمس بنات، توفى زوجها و تركها شابة فى مقتبل العمر، بحثت عن عمل و إستطاعت بتعب و مجهود و إرادة فولاذية أن تكمل رسالتها فى رعاية و تربية و تعليم بناتها.

و بعد أن تزوجت آخر بناتها الخمس، كانت تعيش وحدها فى البيت الذى شهد  سنوات دموعها و تعبها من أجل إتمام رسالتها مع بناتها.

فجاءة و بدون أى مقدمات  وجدت نفسها وحيدة لا أحد يسأل عنها.
لم تكن تطالب بحقوقها فى سنوات عمرها التى أفنتها من أجل بناتها.
هى فقط تريد أن تجد من يسأل عنها و قد أصاب الوهن و المرض جسدها.

تمر السنوات تتذوق فيها طعم المر.
كيف حدث هذا.
كيف استحالت قلوبهم اللحمية إلى قلوب حجرية.
أسئلة كثيرة تبحث إجابات و ليس من يجيب.

تقدم العمر بها و لم تستطع البقاء وحدها لخدمة نفسها.
حاولت مرارا أن أثنيها عن عزمها و أن أقنعها أننى سوف أبقى دائما ساهرة على خدمتها .

و لكنها رفضت و فضلت أن تترك البيت الذى شهد ذكرياتها و أدق تفاصيل حياتها .
و أتت إلى هنا مفضلة أن تقضى الباقى من حياتها بين جدران دار المسنين عن أن تنتظر أحدا يمد لها يد المساعدة.

و منذ أن جاءت هنا أتخذت قرارها ألا تتحدث عن ما حدث لها.
و ها أنا آتى لزيارتها للإطمئنان عليها لكى تشعر إنه لا يزال أحد فى الحياة يهتم لأمرها ويسأل عنها.

عندما أنهت السيدة حديثها شكرتها من أجل ما فعلته و من أجل ما تفعله لهذه السيدة المسنة الصامتة.
و مضيت فى طريقى و الدموع تملأ عيناى.
لا أستطيع أن أنطق بكلمة واحدة.
فلا يوجد من الحروف و الكلمات ما أستطيع التعبير به عن حجم الحزن الذى أصابنى.