د. أحمد الخميسي
تركنا يحيي حقي في التاسع من ديسمبر عام 1992 وانقضى على رحيله ثمانية وعشرون عاما، ومازال دوره الحقيقي في الأدب والفكر بحاجة إلى ضوء قوي. وقد يطول الحديث إذا تكلمنا عن شخصية حقي النادرة المثال، يكفي أن نتذكر أن أديبا شابا مغمورا تقدم بقصة إلى "مجلة المجلة" التي كان حقي رئيس تحريرها، فطلب من معاونه نشر القصة، لكن المعاون اعتذر فلم يكن ثمت مساحة كما أن المجلة كانت على وشك أن تطبع، فقال له حقي:" إذن أجل نشر مقالي الافتتاحي وضع قصة الشاب بدلا منه"! وقد فضل حقي زمنا طويلا النشر في جريدة"التعاون" المغمورة عن الأهرام وغيرها من كبريات الصحف لأنه كان يبحث عن قاريء آخر. كان خجولا دمثا تجنب الضوضاء وصخب الشهرة ووصفه الناقد على شلش بعد ندوة معه بقوله:" راح ينظر إلى الحاضرين في وداعة تارة، ثم ينظر تارة أخرى إلى الأرض ويده اليسرى تقبض على عصاه القصيرة في قلق ظاهر، كأنما يقول في نفسه: ماذا جنيت حتى يتفرج علي الناس هكذا؟".
وعندما قال نجيب محفوظ : " كنت أتمنى لو أن جائزة نوبل ذهبت إلى يحيي حقي"، رد حقي بعذوبة: " وجدني الأكبر سنا في الوسط الأدبي، فأراد أن يجبر بخاطري"! كان حقي رأس المدرسة الحديثة في الأدب التي نشأت في العشرينات وطالبت أن يكون لمصر أدبها المصري متفاعلا بذلك – على المستوى الأدبي - مع بلورة القومية المصرية التي فجرتها ثورة 19، وكان أحد الرواد الأوائل لفن القصة القصيرة منذ ولادتها مع محمود طاهر لاشين والأخوين عيسى وشحاته عبيد.
وقد ولد حقي ونشأ في درب " الميضة " خلف مقام السيدة زينب، ثم عاش في منطقة الخليفة، وسقته تلك النشأة الروح الشعبية المصرية، فظل يدافع عن تلك الروح حتى النهاية، وقد كان جده لأبيه مباشرة وافدا تركيا جاء من اليونان واستقر في مصر، وكانت السمات التركية واضحة في ملامح وبشرة يحيي حقي، لكن عندما كان البعض يذكره مازحا بأنه من أصول تركية كان يجيبه بقوله:" لو عصرتم دمي بمعصرة القصب، ستجدوني مصريا حتى آخر قطرة"! أنهى عام 1925 مدرسة الحقوق السلطانية العليا في جامعة فؤاد الأول والتحق بالعمل الدبلوماسي فترة ثم عين مديرا لمصلحة الفنون عام 1955 فكان أول وآخر مدير لها إذ ألغيت بعد ذلك بثلاثة أعوام، لكن الأدب والفن ظل شاغله الأول فترك لنا نحو أربعين كتابا ما بين القصة والرواية والنقد والفكر الأدبي والتاريخي، لعل أشهرها روايته " قنديل أم هاشم" 1940 التي بنيت على مرض بطلتها فاطمة بسرطان في العين، والعجيب أن يموت يحيي حقي بالمرض نفسه بعد نصف قرن من الرواية التي جلبت له الشهرة. وعند الحديث عن دور يحيي حقي المتفرد، سأتوقف عند انغماسه في البحث الدؤوب عن الفن الشعبي المصري وإبرازه، وقد كان هو أول من اقترح ودعا وتحرك لإنشاء فرقة فنون شعبية عام 1955، وكان أول من قدم عازف طبلة شعبي في حفل ضم الرئيسين عبد الناصر وجوزيف تيتو، وقال حقي بعد ذلك : " كان ضارب الطبلة ذاك أول منفذ للفنون الشعبية إلى حصن الدولة"! فـأقيم للمرة الأولى مهرجان للفنون الشعبية، ثم قدم حقي أوبريت " ياليل ياعين" وهي مجموعة مشاهد من الفنون الشعبية بالمحافظات. ظل هذا الاهتمام ملازما ليحي حقي لا يفارقه لذلك نجده يلاحق بالنقد والتقريظ كتاب الأغاني مثل فتحي قورة ويقول عنه : " إنه بهلوان الوزن والقافية"، ويمتدح أن قورة استطاع تقفية كلمة " ما أعرفش " المصرية مع الكلمة الأجنبية " فري متش" في أغنية آلو آلو احنا هنا لشادية.
وحين يكتب حقي عن الموسيقا – وهو الأديب المصري الوحيد الذي تطرق للموسيقا في كتاب منفرد هو " تعال معي الكونسيرت" – فإنه يضع سيد درويش في صدارة اهتمامه لأهمية درويش في التعبير عن الروح الشعبية.
لم يفارق البحث عن الروح الشعبية وتجلياتها عملا من أعمال حقي، وأخطر ما تجلى منه في ذلك المضمار هو بحثه المستمر عن ممر وقناة تصل اللهجة العامية باللغة الفصحى، ونسف التضاد بين اللهجة واللغة، إذ كان يجد باستمرار كلمات اللهجة في معاجم الفصحى، وكان يرى في المعاجم أصول اللهجة.
هذا الممر بين اللهجة واللغة لم يعثر عليه أحد في تاريخ الأدب المصري سوى يحيي حقي. وانظر إليه يكتب : " امرأة بواسة "، وبواسة صحيحة عامية وفصحى، وانظر إليه يكتب : " حفلة رقص ملعلعة " وكلها سليم فصحى وعامية، ويستخدم عن معرفة كلمة " هيصة " وكلمة " ألعوبان" ويفتح الممر بين اللهجة واللغة بعمق واقتدار. وقد كان ذلك أحد هموم الأديب العظيم الذي قال عن حق : " لو عصرتم دمي بمعصرة القصب، ستجدوني مصريا حتى آخر قطرة"! نعم .. كنت مصريا وأي مصري؟ عظيم في الأدب والفن والفكر واللغة ولا توفيك كل الكلمات حقك.