عاطف بشاي
بدأت عملية «التجريس».. أُركب «نورالدين المشالى» و«فاطمة» كل على حمار.. وأُجبر المشالى على لبس عمامته- وهى الشارة التى تدل على أنه من القضاة- وكان كل منهما وجهه إلى مؤخرة الحمار.. وطافوا بهما الشوارع المحيطة.. والجنود حولهما يدقون الأجراس.. وينادون على الناس ليجتمعوا حولهما ويسمعوا قصتهما.. والمغانى فى الخلف يزفونهما بالطارات.. وقد وضع فى عنق «المشالى» ماشة وهون.. وطافوا بهما فى الأحياء ثم عادوا بهما إلى دار حاجب الحجاب حيث ضربوهما بالسياط أمام الناس عقاباً لهما.
جاءت هذه الفقرة فى أحد موضوعات كتاب «حكايات من دفتر الوطن» تحت عنوان «السلطان وقضاة الشرع» للكاتب الكبير «صلاح عيسى» وتنتمى القصة إلى العصر المملوكى وبالتحديد فى السنوات الأربع الأخيرة منه قبل أن تدهس سنابك خيول السلطان «سليم» فى معركة «مرج دابق» جثة السلطان الغورى آخر سلاطين هذه الدولة.. إنها قصة حب نمت بين القاضى «نورالدين المشالى» و«فاطمة» زوجة صديقه القاضى «خليل» الذى ضبط العاشقين فى حجرة نومه ذات ليلة يمارسان الفحشاء أثناء غيابه فى حلقة الذكر.. فانهال عليهما ضرباً.. ثم أغلق عليهما باب الحجرة.. ووضع عليهما حراسة من بعض خدم المنزل.. وتوجه إلى دار حاجب الحجاب.. وروى له الواقعة فأرسل الحاجب فقبض عليهما وبدأ التحقيق معهما.. ثم أمر بتجريسهما.
يدور الزمن دورته حتى نصل إلى الألفية الثالثة.. فتصبح المفارقة المؤلمة هى دوران هذا الزمن إلى الخلف فنعود إلى تلك الممارسات المتخلفة والشعائر والسلوكيات المتدنية التى كانت تمارس فى العصور المنحطة والأزمنة السلفية التى تعود لتتمدد وتنتشر وتفرض وجودها المتراجع حضارياً على الشارع المصرى باسم الفضيلة المستباحة تحت مظلة الأخلاق المرعية.. فأحدثت تغيرات سلوكية وشملت شرائح عديدة من البشر.. ولعلنا لا ننسى ذلك الحادث المخزى الذى تعرضت له عجوز بالمنيا إلى «التجريس» بل والانتهاك الجسدى والتعرية لأسباب طائفية تجافى حقوق المواطنة فى محاولة لنسف دعائم الدولة المدنية.. وجدير بالذكر أن هذه الحوادث المؤسفة نلمح انعكاساتها وتأثر الناس بها من خلال سينما العنف التى يمثلها «محمد رمضان» فى الشخصيات التى يجسدها ترتكب جرائم الانتقام الفردى لتحقيق مآرب شخصية يتجرأ فيها على مدنية المجتمع وقوانينه الوضعية.
وتأثر الناس يأتى من خلال محاكاة الشخصية التى يلعبها البطل على الشاشة فى الواقع المعاش وتتقمصها.. وتكون هذه المحاكاة نشطة وقوية بشكل خاص فى السينما.. فمثلاً بعد عرض مسلسل «الأسطورة» بطولة «محمد رمضان» شهدت قرية بمحافظة الفيوم- على غرار أحد مشاهد المسلسل- قيام فرد من أفراد عائلة بتجريد زوج ابنته من ملابسه وإلباسه ملابس نسائية بهدف تجريسه والحط من كرامته بزفته فى القرية عنوة بهذا اللباس انتقاماً منه لقيامه بتصوير زوجته بملابس النوم.
المفارقة الأخرى فى واقعة «العشق المحرم» بين «المشالى» و«فاطمة» تلك الازدواجية المدهشة بين الشكل الظاهرى لذلك العصر الذى اتسم بقشرة من الوقار المفتعل والتزمت الأخلاقى المصطنع.. فحقيقة الأمر أن الزنى كان منتشراً.. والبغاء رسمى تعترف به الدولة التى تفرض الضرائب على البغايا.. وكانت المومسات يخرجن إلى الشوارع ويحرضن علناً على الفاحشة.. وليس أدل على ذلك من انتشار الأمراض السرية «كالزهرى» و«السيلان» وتفشيهما بصورة وبائية.. وانتشر الشذوذ الجنسى لدرجة أن المؤرخين كانوا يستثنون سلطاناً من كل عشرة سلاطين وقد خلع أحد السلاطين عن العرش بسبب عشقه لغلام امرد.
المدهش والمثير فى الأمر أن عقاب الواقعة لم يقتصر على التجريس فى كل أنحاء القاهرة والضرب والإهانة والاكتفاء بطلاق العاشقة من زوجها وفصل العاشق من وظيفته.. فقد أمر السلطان قنصوة الغورى بتطبيق حد الزنى برجم «المشالى» و«فاطمة» ثم عاد متراجعاً واستبدل حكم الرجم بقرار شنق العاشقين.. يقول صلاح عيسى «نفذ الشنق على الصورة التى تخيلها السلطان فى حبل واحد.. فجعلوا الرجل وجهه فى وجه المرأة.. وصارت جثتاهما معلقتين ثلاثة أيام ووجهاهما وجسداهما ملتصقين والناس يأتون من كل فج عميق لكى يشاهدوا النهاية الفاجعة لقصة حب..».
فياله من عصر رهيب..!
Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم