بقلم: دكتور مهندس/ ماهر عزيز
في لقاء تاريخى بين رئيسى فرنسا ومصر بالعاصمة الفرنسية باريس، تبدى الموقف على نحو فريد فجأة وكأنه مواجهة تاريخية بين القيم الإنسانية والقيم الدينية.
في رده على تساؤلات حول رؤية الدين بعض الأمور أكد الرئيس الفرنسي: "نحن نعتبر قيمة الإنسان هي أهم من كل شيء، ولذلك حقوق الإنسان هي أهم ميثاق في الحقوق الدولية، وما من أمر أهم من كرامة الإنسان، ولذلك علينا أن نحترم بعضنا البعض".
ولم يدع الرئيس الفرنسي فرصة لخلط المفاهيم، أو الالتباس بينها، بل قال بمنتهى الوضوح: "نعرف أن القيم العالمية التي نملكها تؤكد أنه ما من أحد أعلى من الفرد الحر، والإنسان يحق له اختيار الديانة التي يريد الإيمان بها، ولكن إذا اعتبرنا أن القيم الدينية أعلى من قيم الإنسان فهذا يعنى أننا لا نقود بلادنا وفقاً لمبادئ الديمقراطية، وهذا لا يؤدى للنتيجة الفضلى للشعوب، والشأن الدينى يجب ألا يكون له علاقة بالشأن السياسى".
وفى مقابله لم يترك الرئيس المصرى الفرصة السانحة أمامه للضرب بشدة على المفهوم المعاكس، والدعوة إليه، فأكد في رده على السؤال ذاته: "إن مرتبة القيم الدينية أعلى بكثير من القيم الإنسانية"..
وأضاف: "من حق الإنسان أن يعتنق ما يريد ويرفض ما يرفض، ولكن من المهم ونحن نعبر عن رأينا ألا ننتهك القيم الدينية، لأن القيم الدينية أعلى بكثير من القيم الإنسانية، فالأديان نزلت من قِبَل الخالق، وهى تسمو فوق كل المعانى والقيم، والتساوى بين القيم الإنسانية والقيم الدينية أمر يحتاج لمراجعة".
وهكذا كشفت هذه المواجهة الصريحة بين القيم الإنسانية والقيم الدينية عن غموض لمعنى القيم الإنسانية في الذهنية الشرقية عموماً، والذهنية الغالبة المصرية على جه الخصوص..
فالرئيس المصرى تحدث عن القيم الإنسانية بوصفها "من صنع الإنسان".. وبدا له بداهةً أن القيم الدينية "من صنع اللـه" لابد وأن تعلو القيم الإنسانية التي هي "من صنع الإنسان".
لكن الحقيقة أن الرئيس الفرنسي لم يتحدث عن القيم بوصفها من صنع أحد، وطرح القيم الإنسانية ليس بوصفها "من صنع الإنسان"، ولكن بوصفها "القيم التي تحفظ كرامة الإنسان".. وشتان الفارق بين أن تكون القيم "من صنع الإنسان"، وبين أن تنتصر القيم "لكرامة الإنسان"!!
وهكذا تتبدى المفاهيم الأساسية كحجر عثرة ثقيل، يعوق الإدراك السليم لمعنى القيم على النحو الشائع في الفهم المصرى والشرقى بعامة.. ويتلبس جوهر الإشكال في التعريف الأصلى "للقيم الإنسانية"، وهل هي "ما يصنعه الإنسان"؟ أم هي "ما يحفظ للإنسان كرامته"؟
الحق أن من يتتبع المصطلح في الذهنية المصرية الغالبة، وفى التراث الدينى السائد، يقف على دونية "القيم الإنسانية"، لسبب اليقين المطلق أنها "ما يصنَعه الإنسان"!!.. فيلزم إنكارها ودحضها، حتى لو استهدفت صون الكرامة الإنسانية، وحماية الكيان الإنسانى من سلب "الإنسانية" لحساب الزعم بما هو "القيم الدينية"!!
وتكمن الخطورة الهائلة بسيادة هذا المفهوم في حصانته المطلقة بقوة الإيمان بقيم دينية قد تحمل في جوهرها تهديداً مطلقاً للإنسانية، في غير الذين يعتنقون القيم الدينية لدين معين بذاته.
فالخطورة كامنة في الحفاظ الانتقائى لكرامة الإنسان بصونها عند اتِّباع قيم دينية سائدة، وسلبها حال أتِّباع قيم دينية أخرى.. ما يجعل من "فقه الحدود" أعلى سلطاناً وقهراً "لفقه الحياة".
والمأزق الصارخ هنا أنه إذا وجد أكثر من دين واحد، أحدهما للأغلبية والآخر للأقلية، فإن القيم الدينية تستحيل ليس لوسيلة تحفظ للإنسان كرامته واعتباره، بل لوسيلة للتمييز العنصرى، تحفظ الكرامة لأصحاب دين الأغلبية، وتسحقها لأصحاب ما عداه من أديان، بوصف قيمهم الدينية مخالفة ومغشوشة ولا تنسب للـه، لأن ما ينسب للـه فقط من قيم هي قيم دين الأغلبية.
هذا المأزق الوجودى لا يجعل من القيم الدينية حارساً "للكرامة الإنسانية" بل حارساً "للتمييز العنصرى".
فإذا وُجِدَتْ – على سبيل المثال – قيمة دينية تؤكد لحاملى قيم دين الأغلبية: "إذا رأيت أحداً من دين يغايرك في الطريق ألزمه من الطريق أضيقه".. فإن القيم الدينية التي تحفظ للأول كرامته تسلب الآخر كرامته وحريته..
هذه "الانتقائية القيمية الدينية" لابد وأنها تضرب "الإنسانية" المفترضة للقيم الدينية في مقتل..
إن الأصل في القيم الدينية أنها نابعة من الأديان، والأديان في جوهرها من المُفْتَرَضْ أنها ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته.. فإذا عاندت القيم الدينية هذا الجوهر، ولم تنتصر لشرف الإنسان وسعادته – أيُّ إنسان وكُلُّ إنسان – فإنها تخسر عِلَّتَهَا وتفقد انتسَابَهَا لمصدرها الإلهى..
فاللـه الذى خلق البشر باختلاف جنسياتهم وانتماءاتهم وديانتهم يستحيل عليه - جَلَّ جَلاَلُهُ - أن يصدر قيماً دينية لفريق من البشر تمنحه إنسانيته وحده على حساب سلبها وسحقها لما عداه من فرق بشرية إنسانية أخرى خلقها اللـه - عز وجَلّ - أيضاً، ومنحها الحق في الحرية والحياة والإنسانية النبيلة.
وإذا عَبَّر البعض عن قلقه تجاه "القيم المصنوعة بيد الإنسان" ضد سعادة الإنسان وشرفه، فإن تلك لا تُحْتَسَبُ قيماً إنسانية مطلقاً، بل هي ضد الطبيعة وضد الحياة... فالإجهاض، والمثلية، والقتل، وسلب الحرية، والاستعباد، والتفرقة العنصرية، والدنس، والغش، والظلم، والحسد، والشر، هي قيم تختصم كرامة الإنسان.. والمقصود بالقيم الإنسانية فقط "التي تحفظ كرامة الإنسان" وليست "المصنوعة بيد الإنسان".
العلاقة الجدلية إذن بين "القيم الدينية" و"القيم الإنسانية" لابد وأن تجعل من الأولى توكيداً للثانية، واحتفاءً بها أو انتصاراً لأجلها.. فإذا تَصَاَدَمَتْ معها تفقد عِلَّتَها ونَسَبَها للخالق عز وجَلَّ.
فأى قيم دينية لا تحقق إنسانية البشر أجمعين على قدم المساواة هي بالضرورة قيمٌ دخيلة على المشيئة الإلهية ومُصَادِمَةٌ لها..
ولأجل ذلك فإن الزعم بعلو القيم الدينية لدين معين يتيح التعامل على نحو انتقائى صرف مع اتباع هذا الدين فقط، فيكفل لهم وحدهم الكرامة الإنسانية نازعاً إياها من البشر الذين لا يدينون بالدين عينه، ومكرساً للتفرقة العنصرية وسلب الكرامة الإنسانية لغير فرقاء الدين، وهدم القيم ذاتها في جوهرها..
وعلى مستوى الدولة.. إذا ما اعتنقت الدولة ديناً معيناً – وهو ما هو ضد كيانية الدولة ذاتها، وضد وجودها كحارس لكرامة كل إنسان على أرضها – أقول إن الدولة عندئذٍ تنتصر فقط للقيم الدينية، للدين الذى تعتنقه، أي الذى ترفعه ديناً للأغلبية تسود أحكامه كل أشكال الحياة في المجتمع... وذلك يفسر على نحو صريح ما قال به الرئيس الفرنسي: "إذا اعتبرنا أن القيم الدينية أعلى من قيم الإنسان فهذا يعنى أننا لا نقود بلادنا وفقاً لمبادئ الديمقراطية (أي مبادئ الحرية والمساواة وسيادة القانون والمؤسساتية)، وهذا لا يؤدى للنتيجة الفضلى للشعوب"، لأنه سيجعل من الشأن السياسى (أي تسيير حياة الناس للأفضل والأنجح والأرفع) شأناً دينياً، لا يحقق سوى كرامة الذين يُعَلُّون بالمجتمع والدولة قيم دينهم على "القيم الإنسانية"، وهى القيم التي تحفظ كرامة الإنسان دون تفرقة – كما أسلفنا – وليست القيم "من صنع الإنسان".
والحق إن الذين يرون علو وأولوية قيم دينهم على "قيم، مبادئ ومواثيق حقوق الإنسان الدولية" يتجاهلون أن هذه القيم ليس مصدرها الإنسان، بل مصدرها رؤية متعادلة ومنصفة وحقانية لمبادئ اللـه.. أي مصدرها الرئيسى هو مشيئة اللـه – جَلَّ جَلاَلُهُ – التي صاغت الدين ومنحته للبشر.
فالحق في الحياة..
والحق في الصحة والتعليم والعدالة..
والحق المتساوى لكل البشر أمام القانون..
والمساواة المطلقة للبشر مهما اختلف الدين واللون والجنس والسن والعقيدة..
هي قيم إلهية أسبق من أي قيم انتقائية لدين يدين بها أتباع الدين..
... ...
في البدء خلق اللـه الإنسان، حيث لم يكن ألوان أو أجناس أو اختلافات أو تفرقة.. "ذكراً وأنثى خلقهم" فكانت المرأة معيناً للرجل نظيره، أي مساوية له...
خُلِقَ الإنسانُ على مبادئ الفطرة السليمة للحق والخير والعدل والحرية.. قيم اللـه الخالدة لأبناء اللـه من صنعه، ولما زاد الشر في العالم، منح اللـه الإنسانً ديناً أراد به أن يقنن بعض مبادئ جوهرية ضاعت في الطريق إلى اللـه.. وجَعَلَ غاية الدين الحقيقية هي "القيم الإنسانية" ذاتها..
فالوجود الإنسانى وقيم الإنسانية الخالدة التي بثها اللـه في حياة البشر أسبق من الدين الحصرى لفئة معينة ومبادئه الجزئية لمن يؤمن به..
وصار المأزق الوجودى لأصحاب الدين أنهم لا يرون سوى مبادئ دينهم هي المبادئ التي يتعين أن تسود، رغم الحيود الذى قد يسوق فيه البشر هذه المبادئ ليسودوا بها متى ملكوا القوة، ظناً بأن المبادئ الدينية تعلو "مبادئ اللـه الإنسانية" التي أودعها البشر لأجل شرف الإنسان وسعادته..
في المبادئ الدينية الحصرية قد يُبَاح قتل الأغيار لأنهم أغيار.. فإذا عَلَت في الدولة القيم الدينية فوق القيم الإنسانية المستخلصة من مبادئ اللـه؛ التي بالتعريف ذاته تستهدف شرف الإنسان وسعادته، وليست "التي من صنع الإنسان" – صار القتل عملاً مباركاً في الدولة غير مستوجب الحكم أو القصاص.. وينتهى الأمر بإخفاق هائل للقيم الدينية، لأن الأمان المجتمعى والسلم الاجتماعى يسقطان عندئذٍ صريعين تحت سنابك القيم الدينية..
الحق إن رسالة السماء إذا كانت في جوهرها هي ثورة إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته، فشرف الإنسان وسعادته هما معاً "جوهر القيم الإنسانية"، كما هما معاً يتعين أن يكونا جوهر "القيم الدينية".. وهنا ينبغي أن تتحِدّ القيم جميعاً في تحقيق الشرف الإنساني وسعادة البشر.
إن "القيم الإنسانية" هي الغاية النهائية "للقيم الدينية"؛ ذلك أن "القيم الدينية" لم يأت بها الدين إلا ليحقق "القيم الإنسانية" التي تتحقق فيها وبها كرامة الإنسان وسعادته، وأى قيم مهما كانت دينية تنتقص من كرامة كل البشر وسعادتهم جميعهم على قدم المساواة تتصادم تصادماَ جوهرياً مع إرادة السماء.
استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ