فاطمة ناعوت
المكان: ڤيلا الدكتور يحيى الرخاوى بحى المقطم. الزمان: خريف 2003. هذا الشيخُ الجليل الذى لا يكاد يُبصر، ومازالت قواه خائرة، بعدما اخترقتْ عنقَه، قبل ثمانى سنوات، طعنةٌ جهول من خنجر جهول فى يد أُمىّ جهول. رحتُ أتأمله جالسًا فى هدوء بين حرافيشه ومُريديه مُطرقًا برأسه متوكئًا على عصاه بيسراه. أصابعُ يمناه، الراقدةُ على ركبته، كانت كأنما تجمّدت على وضع ثابتٍ لا يتغير. قلتُ للجالس إلى جوارى: «انظر! كأن أصابعَه تقبضُ على قلم!». والقلم غير موجود! أصابعُه تقبض على فراغِ قلمٍ ليس هناك. كأنما لا يريد أن يتركَ رفيقَ عمره حتى بعدما ذهب البصرُ وخارت قوى القبض على القلم. هذا كاتبٌ كبير حقًّا. ليلتَها كتبتُ قصيدة «الطريق»، التى نُشرت فى ديوانى الرابع: «فوق كفّ امرأة» 2004، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويقول مطلعُها: «لن أصفحَ/ برغم أصابعِك التى تجمّدتْ على قبضةِ القلمْ/ عند سفح المقطم». كان ذلك أحد لقاءاتى به. أما لقائى الأخيرُ فكان فى ربيع 2006، قبل رحيله بشهور. المكان: فندق شبرد الذى يُطلُّ على نيل مصر. قاعةٌ ضوؤها خافتٌ ليترفّقَ بشبكية رجل جاوز التسعين، بينما نصاعةُ عقله تعيشُ خارج الزمن. تحدث معنا بمحبة كعادته مع حواريّيه. أخذنى الإنصاتُ والتأملُ، وفجأةً تذكّرتُ شيئًا! معقول على كل ما أقتنى من روايات لنجيب محفوظ، لم أحظَ بعدُ بتوقيع منه على أىّ منها؟!

نهضتُ من مقعدى وخرجت مُسرعةً من القاعة وسط دهشة الجميع، وركضتُ على سُلم بهو الفندق نزولًا، ثم خروجًا من شبرد ودخولًا لفندق سميراميس المواجه. ارتقيتُ الدَّرجَ للطابق الأول حيث المكتبة التى تضمُّ أعمال الكاتب الكبير. لم أتحيّر أمام الاختيارات، وامتدت أصابعى رأسًا إلى «الطريق»، الرواية الأقرب إلى قلبى، حيث «البحث عن هوية»، «البحث عن حُلم»، فالبحثُ فى ذاته هدفٌ، وليس الوصول إلى الضالّة. جميعُنا ينتظرُ شيئًا ما ونحلمُ. ولو تحققت جميعُ أحلامِنا اختفى سببُ وجودنا. عدتُ إلى صالون الأستاذ ركضًا وكان الأستاذُ ينتظرُ بقلمه كى يوقّع باسمه على الرواية وعلى «الطريق»: نجيب محفوظ..

بعد حادثة الخنجر، أصبح يكتبُ ببطء شديد وبحروفٍ كبيرة. بعدما كتب اسمَه فى دقائقَ طوالٍ كأنها الدهرُ، حاولتُ سحبَ الرواية من بين يديه وأنا أشعر بالخجل لما سببته له من جهد وتعب. تمسّكَ الأستاذُ بالكتاب ليكتبَ التاريخ، ثم نظر فى عينى قائلًا: «إوعى توقّعى اسمك دون تاريخ!»، وكان درسًا لم أخلفه أبدًا كلما وقّعت أحد كتبى لقارئ.

كتبَ تاريخ يومئذ، 2 إبريل 2006، واستغرقتْه كتابةُ التاريخ خمسَ دقائق أخرى مضافةً إلى الخمس الأولى التى كتب فيها اسمه بخط مرتعش. وصار ذلك التوقيعُ أثمنَ ما فى مكتبتى. دسستُ كتابى/ الكنز فى حقيبتى ثم أخذنى الصمتُ الطويل. أستمعُ إليه، وأستمتعُ بخفة ظلّه وقفشاته السياسية وإلماحاته الذكية، التى تشير إلى نصاعة وعى لم يستطع أن ينال منه تراكمُ العقود وغزارة العمل والطعنةُ الحمقاء. كان هذا لقائى الأخير به. ورحتُ أتذكّرُ لقاءنا الأول. يا إلهى! ثلاثون عامًا تفصلُ بين اللقاءين!

لقائى الأول به كان فى كازينو «قصر النيل». النيل أيضًا؟ ترى ما الرابط بين النيل ومحفوظ؟ كان عمرى وقتها تسعَ سنوات.

«لن أصفحَ/ برغم أصابعِكَ التى تجمّدتْ على قبضةِ القلمِ عند سفح المقطم/ لأن تعثرى/ فى سنواتى التسعِ/ بين مقاعدِ مقهىً مقصوصٍ من العاصمة وبين أميالِك التسعة من النهرِ إلى البحر/ أفلتَ التاجَ من الوجوديين/ ليستقرَّ فى يدِ صبيتيْنِ/ تحملانِ لقبَ العائلة».

صحبتنا أمى لتناول الكاساتا فى كازينو قصر النيل. وكان الأستاذُ بين حرافيشه. أشارت أمى قائلة: «اللى قاعد هناك ده هو نجيب محفوظ، الكاتب الكبير». رحتُ أشِبُّ على أطراف أصابعى لكى أتأمل وجهه بوضوح وشاهدتُ «الزبيبة» الكبيرة جوار أنفه. راح عقلى الصغيرُ يحاول الربطَ بين الزبيبة الكبيرة وكونه كاتبًا كبيرًا. كان هذا فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى، قبل عقد من حصوله على نوبل. رحتُ أدفسُ وجهى فى كأس الكاساتا بالفراولة والڤانيللا، وأشبُّ بين الحين والآخر على قدمى الصغيرتين كى أحدّق فى الكاتب الكبير. هل يختبئ الإبداعُ الكبيرُ داخل تلك الزبيبة الكبيرة؟ فى المساء، رحتُ أفحصُ وجهى فى مرآة غرفتى، فلا أجد زبيبة. هذا يعنى أننى أبدًا لن أكون كاتبة كبيرة!

قبل أيام، 11 ديسمبر، كان عيد ميلاد عمّ نجيب محفوظ. لروحه السلامُ ولقلمه الخلود. نَمْ ملءَ جفونك عن شواردها، أيها النجيبُ الجليل، وعِشْ ألفَ عام. «الدينُ لله، والوطنُ لمُبدعى الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم