إعداد وتقديم الباحث - عصام عاشور
استكمل الباحث عصام عاشور، الحديث عن تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وفى هذا الجزء (الخامس) تناول الحرب الشعبية.. البداية معركة كفر الدوار.
وقال عاشور، خلال برنامجه "الحكاء.. شذرات من تاريخنا" والمذاع كل خميس على شاشة الأقباط متحدون، وقفنا فى الحلقة السابقة عند ضرب الأسطول الإنجليزى للإسكندرية بكمية من النيران لم يسبق لها مثيل.. وإستبسال الجيش المصرى بشكل أذهل حتى القادة الإنجليز.. ونتيجة للفرق الهائل فى التسليح وكمية المدافع التى يملكها الأسطول الإنجليزى .. إضطر الجيش المصرى إلى كفر الدوار .. وبالتالى تم إحتلال الإسكندرية.
وتابع: إنسحاب الجيش إلى كفر الدوار يعنى أن القتال سيصبح على الأرض .. وبالتالى فإنها الحرب بشكلها التقليدى. لذلك شهدت حركة تطوع بين الفلاحين للإنضمام إلى صفوف الجيش أو تقديم المساعدات له وهو جيش مكون أساساً من الفلاحين المصريين .. ويعتبر ذلك تطوراً ملفت للنظر .. فبعد أن كان بعض شباب الفلاحين يحاولون التهرب من الجندية بأى وسيلة فقد كانت تمثل فى أذهانهم البعد عن الأهل والوطن .. إلى حد إتلاف بعضهم لبعض أعضاء جسده .. تجدهم اليوم يطالبون بالإنضمام إلى صفوف الجيش للدفاع عن شرف الوطن الذى داسته أقدام الغزو الأجنبى فقد أصبحت القضية واضحة أمام الشعب .. حيث رأوا أن الحرب ضد الإنجليز حرب دينية مقدسة.
شاهد أيضا
وقال: سنذكر مثالين فقط على حجم تطوع المصريين للقتال أولاً فى مديرية المنيا إستطاع الشيخ أحمد عبد الجواد وأخيه محمد من جمع 2600 متطوع .. وفى مديرية جرجا إستطاعة عائلة أبو ستيت من جمع 200 متطوع. كان لعبد الله النديم الدور الأكبر فى حشد المصريين .. حيث إعترفت بذلك إحدى الصحف التركية.
لذلك فقد توثقت الروابط بين عرابى والفلاحين ليس من الناحية الوطنية فقط ولكن من الناحية الدينية أيضاً. فعلى سبيل المثال كان (عبد ربه يوسف) الفلاح من كفر عبد الخالق بمديرية المنيا يمر على النواحى وينادى هيا بنا نتوجه لطرف عرابى الذى هو من نسل المبرورفقد بعثه الله لحماية الوطن والدين .. وسيجعله الله والياً على القطر المصرى.
إذاً سيقاتل الجيش المصرى وليس فى خزينة الحكومة مليماً واحداً لأن المراقي المالى الإنجليزى سبق أن أخذ كل أموال الخزينة ونزل بها إلى الأسطول قبل إعلان الحرب بأيام كما سبق وأن ذكرنا .. حتى أموال صندوق الدين تم إنزالها إلى السفن الحربية بواسطة أعضاء الصندوق الإنجليز والفرنسيين.
تمت مطالبة الشعب بالتبرع لإعانة الجيش والمجاهدين حتى يتمكن من الدفاع عن الوطن وحفظ كرامته وشرفه. قدم الشعب على إختلاف طبقاته ومذاهبه المال والغلال والخيول والجمال والأبقار والجاموس والأغنام والفاكهة إلى الجيش .. بل هناك من الأهالى من تبرع بنصف ما يملك.
فى هذا الصدد قال عرابى:
(إن جميع النفقات التى لزمت لمائة ألف جندى مصرى أثناء الحرب كانت من تبرعات الأمة المصرية بغير تمييز بين العقائد .. ولم ينفق الجيش أثناء القتال درهم واحد من خزانة الدولة). سارع المصريون للتطوع للقتال.
وقد قال عن ذلك محمد عبده:
(شهدت بعينى رأسى كل الناس بلا إستثناء فى طريقهم إلى الميدان عن طيب خاطر سواء كانوا فلاحين أم بدو وهم يظهرون أقصى الحماس والتطلع إلى مقاومة الإنجليز ... وكان الأقباط على نفس الحماس العام وكان قسسهم وأعيانهم يشجعونهم .. وكان شباب القاهرة يطوفون شوارع العاصمة ليلاً ينشدون الأناشيد تمجيداً لعرابى – ودعاءاً بالنصر.
أمر عرابى بتسليح الفلاحين وتنظيمهم بقيادة المشايخ البلدان للدفاع عن شواطئ بحيرة المنزلة والمطرية ومواجهة أى تسلل من قبل الإنجليز وأعوانهم. وكان موقف رجال الدين كالآتى :
طالب المشايخ بعزل شيخ الأزهر والذى يتولى فى نفس الوقت دار الإفتاء (محمد العباسى) لإرتباطه بالخديوى توفيق .. فتم عزله.
وتم تعيين الشيخ محمد الإمبابى الذى أعلن
عزل الخديوى توفيق
أجمع المشايخ على أن الخديوى بإنحيازه إلى العدو المحارب يعد مارقاً عن الدين ويقتضى خلعه. ظهور أول بعداً إجتماعياً للثورة فعلى سبيل المثال.
فى المناطق ذات الإقطاعيات الكبيرة لكبار الملاك .. أمثال سلطان باشا .. ومناطق الدائرة السنية وهى دوائر تمركز أراضى الخديوى والأسرة المالكة مثل المنيا طالب الفلاحون:
(بضرورة توزيع أطيان الجفالك عليهم وطالبوا بالقضاء نهائياً على سيطرة الأتراك والأجانب وقيام حكومة من الفلاحين من عمد البلاد .. بل وصل الأمر بهم بأن طالبوا بأن يكون مصنع السكر التابع للدائرة السنية ملكاً لهم.
لذلك تزعم سلطان باشا عدداً من كبار الملاك المناوئين للثورة .. كما كان سلطان باشا وكثير من كبار الملاك ينظرون إلى عرابى على أنه دونهم منزلة كونه فى الأصل فلاح .. فهو عمل منذ يوم 11 يوليو (يوم ضرب الإسكندرية) كان قد نشط ومعه بعض الأعيان فى طعن الثورة من الخلف والعمل على إسقاطها وفشلها .. ملتقين فى ذلك مع الخديوى والإنجليزوالأتراك.
وكانت أولى المعارك البرية فى يوم 27 يوليو حيث ظهر قطار يقل الجنود الإنجليز متجهاً ألى كفر الدوار وحين كان على بعد حوالى 1500 متر .. أطلق عليه الجيش قذيفة من نوع كروب .. فأصيب القطار وتوقف ونزل الجنود الإنجليز .. وإشتبكوا مع المصريين فى قتال ضارى لمدة 6 ساعات بالنيران ثم بالأسلحة البيضاء .. فتقهقر الجيش الإنجليزى وتبعه المصريون .. وتوقف القتال حين أطبق ظلام الليل.
وكانت شهادة الجميع أن الضباط و الجنود المصريين قد أبدو من الشهامة والثبات فى هذه الواقعة ما يستحقون عليه الثناء.
وكانت خسائر المصريين فى هذا اليوم ضابطين و 29 من الصف والجنود .. وأما الجرحى فكانوا إثنين من الضباط و 65 من الصف والجنود.
أما خسائر العدو فكانت كبيرة فقد شوهد عدد كبير من جنودهم يحملون قتلاهم وجرحاهم.
وعن هذا اليوم كتبت الجريدة الألمانية (كرستبورج) :
"تبينت شجاعة المصريين وثباتهم فى الصدام فى كفر الدوار وبطلت فكرة الإنجليز التى أذاعوها من أن المصريين يفرون ويتركون مواقعهم بمجرد رؤية القوات البريطانية وأن عرابى سوف يهرب من البلاد بمجرد نزولهم إليها .. وإستطردت الجريدة .. وتحقق الرأى العام الأوربى أن كل ذلك وهم واضح وخيال وربما أصبح أفضل حل للمسألة المصرية هو عزل الخديوى توفيق وتعيين خديوى آخر بفرمان من الأستانة .. والتوفيق بين الخديوى الجديد وعرابى باشا الذى يتولى السلطة ويملك القوة الآن ولن يعد هناك معنى لإراقة الدماء وتخريب بلاد خصبة جميلة من أجل خديوى من هذا النوع .. ولا يجدر بالدول الأوربية أن تكون سبباً فيما سوف يحدث من أضرار بالغة".
وفى صباح اليوم التالى 28 يوليو كانت أرض هذه المعركة مشوهة بالدمار وآثار الجرحى والموتى. بعد ذلك تطورت الأمور إلى الأسوء .. حيث تم إقناع سلطان باشا بواسطة القنصل الإنجليزى ومعه أحد البشوات الذين يكرهون عرابى والثورة بقولهم له بأن (أمير المؤمنين – السلطان العثمانى – يكره الخديوى توفيق وكل أسرة محمد على كما يكره عرابى والعرابيين الذين يريدون الإستقلال وإعادة الخلافة العربية وأن السلطان العثمانى سوف يبارك ولايتك على مصر .. وتم بذلك الإستيلاء على خيال سلطان باشا الساذج وشطح به الطموح .. فإستطاع أن يشق صفوف النواب والضباط).