إستمتعت أمس بمشاهدة الفيلم الفرنسي " جاليلي أو حب الله " ،وإسترعى إنتباهي التشابه الكبير الذي يصل لحد التطابق بين ماحدث في محاكمة جاليليو من قبل كنيسة القرن السابع عشر ،وبين مايحدث من البعض في محاكمات المفكرين التنويريين من قبل المؤسسات الدينية الإسلامية في القرن الحادي والعشرين ،وأيقنت أنهم قد برأوا وحرروا جاليليو الإيطالي ولكن مازال جاليليو العربي لم يتحرر ولم يتسلم صك البراءة بعد ،مازال محروماً من تجاوز سقفهم المصمت ،مازال محنطاً كمومياء في تابوت المعلوم بالضرورة ، يكرمونه إذا تكلم عن إعجازهم العلمي، ويقمعونه إذا فضح عجزهم العلمي،ياليت جاليليو كان شخصاً ،جاليلو فكرة، إزدهرت هناك وإحتضرت هنا،كماإحتضرت أفكار إبن رشد من قبله ،صدق برتراند راسل عندما قال "كل النعم التي نعيشها الآن هي بفضل جاليليو" ، لذلك كانت محاكمته أهم سطر في كتاب تاريخ العلم ،المحاكمة كانت على كتابه "الحوار " ، والتهمة كانت الترويج لنظرية كوبرنيكوس بأن الشمس هي المركز وأن الأرض هي التي تدور حولها وليس العكس ،
وبرغم أن كتاب جاليليو كان عبارة عن حوار بين النظامين، كوبرنيكوس وبطليموس ، وقد راعى فيه التوازن بين الرأيين ، وإختبأ خلف السطور ولم يعلن عن رأيه صراحة ،بل جعل النظريتين أو النظامين أمام القارئ وهو الذي يختار وينحاز تبعاً لإقتناعه وطبقاً لقوة حجة صاحب النظرية، وهنا الدرس الأول المستفاد من تلك المحاكمة ، فالكهنة الذين كانوا على المنصة ،ورجال الدين الذين حاصروه بالإتهامات والذين مازال لهم أحفاد عندنا يحاصروننا ، أحفاد غيروا الرداء فقط ،ولكنهم لم يغيروا الفكر، الدرس هو أنهم سيتربصون بك ويفتشون في نيتك حتى لو كنت محايداً ، فهم لايريدون الرأي الآخر وينزعجون من مجرد طرحه ، ولأن فكرتهم هشة ومنطقهم متهافت فهم يخافون ويرتعبون من المنطق العلمي، لذلك نجد حرباً ضروساً حتى في علوم الدين ،ضد كل من يطرح اراء الفقهاء كلها ولاينحاز لرأي محدد مسبقاً ، الدرس الثاني هو إعتبار العلم خصماً للدين ، مكاسبه هي إنتقاص من الدين ، هوجم جاليليو في تلك المحاكمة بضراوة على تلك النقطة ،وإعتبروه متعالياً عليهم بالعلم الذي يملكه، فالنص المقدس أو بالأصح تفسيرهم للنص المقدس يتماشى مع بطليموس وأرسطو ، وهو التفسير المعتمد من الكنيسة آنذاك، لأن مركزية الأرض تعني مركزية الإنسان ، ولن يسمح لجاليليو أن يخدش كرامة تلك المركزية الإنسانية ، صدمهم جاليليو عندما أثبت لهم أن البديهي عندهم أو مايتصورونه بديهياً ليس هو على الدوام الحقيقي والصادق ، فالبديهي عندهم هو أن الجسم الأثقل يهبط أسرع ، لكن بالتجربة أثبت لهم جاليليو كذب وتهافت بديهيتهم ، وكان الفيصل هو التجربة العلمية التي صارت عدوة لهم ، تعريهم وتكشف خرافاتهم ، قال لهم جاليليو المؤمن والذي لم يكن ملحداً ،" العلم عندي هو أقرب الطرق لحب الله ومعرفته"، لكنهم كانوا يكرهون جاليليو ليس بسبب العلم ،ولكن بسبب أنه سيسحب البساط من تحت البيزنس الديني ويغلق بازاراتهم التي يبيعون فيها فدادين الجنة للمخدوعين ، الدرس الثالث كان مفاجأة ، فقد كان البابا في روما مؤيداً لرأي جاليلو ، وهو الذي نصحه بتقديم الرأيين وعدم الإعلان عن نفسه، ووعده بأن يحميه ويدعمه ، ولكن كل هذا كان في الغرف المغلقة، وعندما خرج إلى النور ، خذله البابا ، وتم تسليمه إلى السجن، وإجباره على إنكار فعلته والإعتذار للكنيسة ،
ولكن الزمن أنصف جاليليو ، ووقف البابا المختلف بعد قرون والذي غيرته وشكلته الحداثة العلمية الجديدة،وقف أمام الدنيا ليعتذر للعالم العجوز الذي أهين وضاع بصره ومرغت سمعته في التراب ، إذن لاتصدق أن أحدهم قد إنفلت وخرج عن السرب ، فالدين عندما يتحول إلى مؤسسة ، تصبح المؤسسة نظاماً فولاذياً مغلقاً لايسمح لأحد بالشرود ، فهناك حدود ، وهي أضيق من ثقب الإبرة، الدرس الرابع هو رفضهم للتأويل والمجاز ، والغريب أن القضية التي عرضها الفيلم هي نفسها القضية التي ناقشتها المعتزلة رواد العقل في التاريخ الإسلامي ، القضية كانت إقتناع الكهنة بأن يد الله تعني أن له يداً حقيقية ، حاول جاليليو بالتأويل والمجاز إقناعهم ، ولكن حرفية النص هي التي إنتصرت ، ولم يقتنعوا لأن في إقتناعهم كسر لقيود الرعية ،هناك درس آخر وليس أخيراً، وهو الشخصنة ومحاولة تلويث السمعة حين يغيب المنطق ويضعف ، فالمحكمة صارت تنبش في ماضي جاليليو الذي ليست له أدنى علاقة بموضوع المحاكمة ، فقد إتهموه بأن له عشيقة !!، وصاروا يحاصرونه ، ويبتعدون به عن القضية الأصلية حتى ينهكوه ، وهذا هو دأب وعادة الفاشية الدينية حتى في هذا العصر ، عقارب الساعة لاتعود إلى الوراء أبداً ، لكن عقارب الإرهاب بالفاشية الدينية هي الوحيدة التي تستطيع تعطيلها.