فيفيان سمير
بين جدران غرفته المعتمة جلس يبكي في الظلام سنوات عمره السبع الماضية، جرحه غائر بيد من كانت له الدواء والشفاء، منذ التقيا بمدرجات الجامعة كزملاء دراسة وعرفت انه يعيش وحده، ظروفه قاسية تضطره للعمل طوال الليل ليوفر مصاريفه، ويقيم مع مجموعة من الطلبة بشقة مفروشة.
أربع سنوات بالجامعة ينهى عمله ليلا وينام ساعتين يهرول بعدهما الى كليته ليلقى بأتعابه ومشاكله على شاطئها ويستمد منها القوة والوقود ليوم جديد إلى ان اصبحت كل دنياه وأصبح هو لها الأبن والحبيب، توحدت احلامهما وطريقهما.
كان يدخر كل قرش يكسبه، لدرجة التقتير على نفسه حتى في المأكل والمشرب، ليستطيع شراء شقة تجمعهما، الى ان فاجأته بأنها موافقة تعيش معه في الشقة المفروشة مؤقتا، وتعاونه في ادخار ثمن شقة العمر، ويمكنهم تأجيل الأنجاب الى ان يتحقق حلمهما وتستقر حياتهما.
بدئا حياتهما معا بسعادة لا حدود لها وعمل جاد وشاق، تعوقهم احيانا مشاكل الحياة المعتادة، التي كانا يتغلبا عليها معا بإرادة تزيدهما عزم واصرار، لكن ما يدخران لا يصمد امام تكاليف الحياة المتزايدة والأسعار المتضاعفة، فيبعد الحلم بدلا من أن يقترب.
ثلاث سنوات كلما تقدما خطوة عاندتهم الظروف، واعادتهما للوراء خطوتين، بدأت الزوجة الشابة تتذمر وترثى عمرها المهدر هباء، والمستقبل الغير واضح الملامح، والحرمان من الأمومة.
بدون مقدمات عاد من عمله ليجدها غادرت منزل الزوجية إلى بيت أبيها، اخذة كل ملابسها. أسرع الى هناك، يحاول التفاهم معها، لكنها رفضت مقابلته بإصرار، ووكلت والدها لأنهاء كل شيء بينهما، تحطمت كل احلامه، بل كل حياته، على صخور الصعاب التي لم تستطع حبيبته الصمود أمامها.
عاد لبيته حزينا، حائرا، لا يدري كيف يغير الواقع الفائق الألم، لكنه لم يفقد الأمل في عودة زوجته بعد ان تهدأ قليلا وتفتقده وتحن لكل ما تركته خلفها بهذا المنزل الصغير.
مرت شهور وهو، كما أعتاد، يمارس عمله بجهد وأمانة في المطعم الذي التحق به منذ ان كان طالبا، وقلبه يتعلق بوهم عودة زوجته في أي لحظة رغم طلاقهما رسميا.
في أحد الأيام أثناء قيامه بعمله، دخل أثنين وجلسا الى أحد الموائد المسئول عن خدمتها، وهم بالذهاب إليهما، لكنه توقف في منتصف الطريق، كانت السيدة هي زوجته السابقة، مع رئيسها في العمل، أسرع إلى مدير المطعم، الذي كان يعرف قصته من بدايتها، يستأذنه في ان ينصرف، ويقوم أحد زملاءه بالعمل مكانه، لكن الرجل لحكمته أصر انه هو الذي يجب ان يغلب مشاعره ويتخطى احزانه، ويقوم بخدمتهم، ربما تخلص من قيوده التي تجذبه للماضي، ليستطيع المضي بحياته، فأمتثل حزينا راسما ابتسامة جوفاء باهته على شفتيه. قام بعمله على أكمل وجه، متجنبا النظر إليها، وإن لاحظ أن علاقتها بذلك الرجل أكثر بكثير من مجرد رئيس ومرؤوسته، حتى انصرفا وأسرع هو الى منزله منهارا فاقدا أي رغبة في الحياة، روحه تصارع موت الحلم، جلس في الظلام لا يستطيع ان يداوى جراحه أو حتى يحتملها.
مرت الأيام والشهور ثقيلة مملة، لا يجد فيها جديد، الى ان أتاه مدير المطعم، الذي كان يعتبره مثل ابنه، ينباه بأنه رشحه للعمل كمدير لأحد فروع المطعم بدولة خليجية.
سافر بلا تردد، قضى في وظيفته الجديدة ست سنوات، أستطاع خلالها تحقيق كل أحلامه وأكثر، حتى عاد وأفتتح مطعمه الخاص. تقدم لفتاة جميلة تعرف عليها أثناء غربته، أحبته بصدق حتى وجد نفسه يخطو نحوها ويبادلها نفس المشاعر الجميلة.
وفى إحدى الليالي وجد أمامه زوجته السابقة وزوجها، الذين أتيا للعشاء بالمطعم الجديد، هذه المرة كانت ابتسامته حقيقية، دون عناء، ولدهشته اختفى الألم تماما.
تحججت بالذهاب الى الحمام، ومرت بمكتبه، تسأل عن أحواله، فعلمت انه صاحب المطعم، وأن حياته استقرت، وجد داخله رغبة ملحة أن يسألها إذا كانت رزقت بأطفال؟ فأجابته ان زوجها لا ينجب، وقد أخفى عنها ذلك قبل الزواج، لكنها لم ترغب في الطلاق للمرة الثانية، وانتهى اليوم دون أن يترك أية مرارة في نفسه، نزع السكين وتقطعت خيوط العنكبوت، اليوم فقط برء منها، تحررت روحه وعاد انسانا كاملا صحيحا.
في اليوم التالي دق جرس التليفون وكانت هي المتصلة، أفصحت عن رغبتها في العودة اليه ليستأنفا حياتهما كما خططا لها، ويستعيدا أحلامهما وسعادتهما، استمع اليها حتى أنهت كلماتها، وضع سماعة التليفون في هدوء وأنصرف مبتسما.
