كتب – روماني صبري
وجه قداسة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، العديد من الرسائل خلال عظة القداس الإلهي الذي ترأسه بمناسبة اليوم العالمي الرابع للفقراء، في بازيليك القديس بطرس، ونرصد هذه الرسائل في السطور المقبلة.
إذا كنّا لا نريد أن نحيا بفقر، لنطلب نعمة أن نرى يسوع في الفقراء، وأن نخدم يسوع في الفقراء". هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في عظته، مترئسًا القداس الإلهي، إن المثل الذي سمعناه له بداية ومحور ونهاية، ينيرون بداية ومحور ونهاية حياتنا."
البداية. يبدأ كلُّ شيء بخير كبير: رب البيت لا يحتفظ بثروته لنفسه، بل يعطيها لعبيده، أَحَدَهُم خَمسَ وَزَنات، وَالثّانِيَ وَزنَتَين، وَالآخَرَ وَزنَةً واحِدَة، كُلًّا مِنهُم عَلى قَدرِ طاقَتِهِ. كانت كلُّ وزنة تساوي أجرة خمس وعشرين سنة تقريبًا، وكان ذلك خيرًا وفيرًا يكفي للحياة بأسرها. هذه هي البداية، وبالنسبة لنا أيضًا، كلُّ شيء يبدأ بنعمة الله، الذي هو أب وقد وضع بين أيدينا خيورًا كثيرة، إذ أوكل إلى كلِّ فرد منا وزنات مختلفة. نحن نحمل ثروة كبيرة لا تتعلّق بعدد الأمور التي نملكها، وإنما بما نحن عليه: أي الحياة التي نلناها، والخير الموجود في داخلنا، والجمال الذي لا يمكن لشيء أن يقمعه، والذي منحنا الله إياه لأننا على صورته، وكل فرد منا هو ثمين في عينيه وفريد، ولا بديل له في التاريخ.
كم هو مهم أن نتذكّر هذا الأمر: كثيرًا عندما ننظر إلى حياتنا، نرى فقط ما ينقصنا، فنستسلم عندها لتجربة الـ حبذا لو!...؛ حبذا لو كان لدي ذلك العمل، حبذا لو كنت أملك ذلك البيت، حبذا لو كان لدي المال والنجاح، حبذا لو لم يكن لدي تلك المشكلة، حبذا لو كان هناك أشخاص أفضل من حولي!... إن وهم الـ حبذا لو يمنعنا من رؤية الخير، ويجعلنا ننسى الوزنات التي نملكها. لكنَّ الله قد أوكلها إلينا، لأنّه يعرف كلَّ فرد منا، ويعرف ما نحن قادرون على فعله؛ هو يثق بنا بالرغم من ضعفنا وهشاشتنا. هو يثق أيضًا بذلك العبد الذي سيخفي الوزنة: ويأمل، بالرغم من مخاوفه، أنّ يستعمل هو أيضًا بشكل جيّد الوزنة التي نالها. إن الله يطلب منا أن نجتهد في الوقت الحاضر، بدون حنين للماضي، وإنما في الانتظار العامل لعودته.
نصل إلى محور المثل: إنه عمل العبيد، أي الخدمة. الخدمة هي أيضًا عملنا، ذاك الذي يجعل وزناتنا تُثمر ويعطي معنى للحياة: في الواقع إن الذي لا يحيا ليخدم لا يصلح للحياة. لكن ما هو أسلوب الخدمة؟ إن العبيد الصالحين بحسب الإنجيل هم الذين يخاطرون. ليسوا مُتحسِّبين وحذرين، ولا يحتفظون بما نالوه بل يتاجرون به. لأن الخير إذا لم يُستَثمَر يضيع؛ ولأن عظمة حياتنا لا تتعلّق بما ندَّخِره، وإنما بالثمار التي نحملها. كم من الأشخاص يقضون حياتهم فقط في التجميع والتكديس، ويفكّرون في جعل حياتهم جيّدة، أكثر من فعلهم للخير. ولكن كم هي فارغة تلك الحياة التي تتبع الاحتياجات، دون النظر إلى من هو معوز وفي حاجة! إن كنا نملك العطايا، فذلك لكي نكون بدورنا عطايا للآخرين.
تجدر الإشارة إلى أن العبدين اللذين استثمرا وخاطرا، دُعيا أربع مرات بصفة أمين؛ فبالنسبة للإنجيل، لا وجود للأمانة بدون المخاطرة. أن نكون أمناء لله يعني أن نبذل حياتنا في سبيل الآخرين، وأن نسمح للخدمة بأن تقلب مخططاتنا ومشاريعنا. إنّه لأمر محزن أن يكون المسيحي في موقف الدفاع فقط، ومتمسّكًا فقط بالحفاظ على الشريعة واحترام الوصايا. هذا الأمر لا يكفي، لأن الأمانة ليسوع ليست فقط عدم ارتكاب الأخطاء. هكذا فكّر العبد الكسلان في المثل: إذ كان يفتقد لحس المبادرة والإبداع، اختبأ خلف خوف بدون فائدة، ودفن الوزنة التي نالها في الأرض. وبالتالي وصفه ربّ البيت بالـ شرّير، علمًا بأنّه لم يقم بأي تصرّف شرّير! نعم، ولكنّه لم يقم أيضًا بأي تصرّف صالح، وفضّل أن يخطئ بالإهمال بدلًا من أن يخاطر ويخطئ. لم يكن أمينًا لله الذي يحب أن يبذل نفسه في سبيل الآخرين، وسبب له الإساءة الأسوأ: أعاد إليه العطايا التي نالها. لكن الرب يدعونا إلى أن نخاطر بسخاء، ونتغلّب على الخوف بشجاعة الحب، ونتخطّى الخمول والكسل الذي يُصبح تواطؤًا ومشاركة في الجريمة. ولذلك في زمن الشك والهشاشة هذا، لا نضيِّعَنَّ حياتنا بالتفكير في أنفسنا فقط، ولا نوهمنَّ أنفسنا قائلين: هناك سلام وأمان!. يدعونا القديس بولس إلى أن ننظر إلى الواقع وجهًا لوجه، وألا نسمح للامبالاة بأن تعدينا.
كيف نخدم إذًا بحسب رغبة الله؟ يشرح رب البيت ذلك للعبد الخائن: كانَ عَلَيكَ أَن تَضَعَ مالي عِندَ أَصحابِ المَصارِف، وَكُنتُ في عَودَتي أَستَرِدُّ مالي مَعَ الفائِدَة. من هم بالنسبة لنا أصحاب المصارف القادرين على أن يؤمِّنوا لنا فائدة دائمة؟ إنهم الفقراء: هم يضمنون لنا إيرادًا أبديًّا، ويسمحون لنا منذ الآن أن نغتني بالمحبة. إن سفر الأمثال يمدح امرأة عاملةً في المحبة، تفوق قيمتها اللآلِئُّ: وبالتالي علينا أن نتشبّه بهذه المرأة، التي يقول عنها النص إنها تَبسُطُ كَفَّيهَا لِلفَقِيرِ، وَتَمُدُّ يَدَيهَا إِلَى المِسكِينِ. مُدَّ يدك إلى المحتاج، بدلًا من أن تطالب بما ينقصك: فتُضاعف هكذا المواهب التي نلتها.
نصل هكذا إلى نهاية المثل: هناك من سيُعطي فَيَفيض، وَمَن سيضيّع حياته ويبقى فقيرًا. في نهاية الحياة ستظهر الحقيقة: سيغيب إدعاء العالم الذي وبحسبه، يعطي النجاح والسلطة والمال المعنى للحياة، بينما سيظهر الحب الذي منحناه للآخرين على أنّه الغِنى الحقيقي. يكتب أحد آباء الكنيسة العظام: هكذا يحدث في الحياة: بعد أن يأتي الموت وينتهي العرض، يخلع الجميع أقنعة الغنى والفقر ويتركون هذا العالم. ويتم الحكم عليهم فقط على أساس أعمالهم، بعضهم أغنياء حقًّا، وبعضهم فقراء. وبالتالي إذا كنّا لا نريد أن نحيا بفقر، فلنطلب نعمة أن نرى يسوع في الفقراء، وأن نخدم يسوع في الفقراء.
أرغب في أن أشكر العديد من خدام الله الأمناء، الذين لا يجعلون الأشخاص يتحدّثون عنهم ولكنّهم يعيشون هذه الشهادة. أفكّر على سبيل المثال في الأب روبيرتو ملغيزيني. هذا الكاهن لم يكن يقدّم نظريات؛ وإنما كان يرى ببساطة يسوع في الفقراء، ومعنى الحياة في الخدمة. كان يمسح الدموع بوداعة باسم الله الذي يعزّي. كانت الصلاة بداية يومه لكي يقبل نعمة الله، والمحبة محور يومه لكي يجعل الحب الذي ناله يثمر، وختامه شهادة صافية للإنجيل. لقد فهم أنّه عليه أن يمدَّ يده للعديد من الفقراء، الذين كان يلتقي بهم يوميًّا، لأنّه كان يرى يسوع في كلِّ واحد منهم. لنطلب نعمة ألا نكون مسيحيي كلمات، وإنما أفعال لكي نُثمر كما يريد.