يتفق معظمنا على أن الاهتمام المتوازن بالذات والآخرين يشكل مقياسًا للنضج النفسي والصحة، تشترك الأنواع الأخرى -معظمها من الثدييات- معنا في القدرة على العيش التعاوني ورعاية بعضها، لكن البشر وحدهم قادرون على التفكير بهذه السمة بوعي لتطويرها وتوجيهها وجعلها هادفة، ما يميزنا بقدرتنا الفريدة على دراسة أفكارنا وسلوكنا. يمكننا أن نتعلم كيف نلاحظ أنفسنا والطرق التي نؤثر بها في الآخرين على عكس الحيوانات الأخرى. وبإعطاء التجارب العاطفية معنى، يساعد علم النفس التحليلي الأشخاص على ممارسة هذه القدرة وتطويرها، ومع زيادة الوعي الذاتي تُفهم الأعراض بوصفها حلولًا جزئية للمخاوف العاطفية وتنقص شدتها وتزداد مرونة السلوك.

قدرتنا البشرية على الشعور والاهتمام بالآخرين ليست فطرية، ويمثل تطور الاهتمام والتعاطف إنجازات تطورية كبيرة في عقل الرضيع وحياته، فشأنها شأن القدرة على التفكير الذي لا يظهر عفويًا، تنشأ هذه القدرة من البيئة ومسيرة حياة الطفل.

منذ الحمل، تصبح الأم والطفل وحدة واحدة هدفها ضمان بقاء الرضيع، يأخذ فيها الطفل القوة من والديه لينمو ويتطور، يبدأ اهتمام الأم المركز في أثناء الحمل ويستمر حتى عمر الرضيع حديث الولادة.

لكن بعد ذلك يدرك الطفل أنه وأمه كائنان منفصلان، ويصبح وهم الاندماج حلمًا جميلًا تجاوزه بعد أن حقق غرضه، ينظر الصغير إلى عيني أمه ويرى شخصًا آخر ليس امتدادًا له كما كان يتصور.

من المفارقات أنه عندما يدرك أنه ليس كيانًا قويًا وحده في هذا العالم، سيختبر حدود عزلته لأول مرة، وقد يشعر بالوحدة والذنب، ويشكل هذا الظهور النفسي تجربته الوجودية الأولى، ويظل يتأرجح طوال حياته بين وحدته وعلاقته بالآخرين، ويظل يبحث عن الراحة والاندماج الذي عاشه وهو طفل آمن في لحظات الألفة أو الحزن، وسيسعى جاهدًا لتحقيق التوازن بين احتياجاته واحتياجات الآخرين.


وفور إدراكه أن أمه كيان منفصل يكتسب القدرة على الشعور بالاهتمام تجاهها، من المؤكد أنه يشعر أيضًا بالغضب والكراهية والخوف، لكن إذا كانت الأم متيقظة وحريصة على حماية صغيرها سيسود الحب والاهتمام، وكما تتلقى الأم غضبه وهو جائع وتحوله إلى إشباع، تتلقى اهتمامه وحبه وترد بالمقابل.

يمثل هذا التبادل المشترك للمشاعر بداية قدرة الطفل على التعاطف ، والقدرة على إسقاط ذاته على الآخر، ومن ثم الإحساس بتجربة ذاك الشخص، وهذا الانجاز النفسي عظيم هو الأساس المطلق للسلوك الأخلاقي.

يعاني الأطفال المهملون تجارب اندماج متقطعة، وبدلًا من الاهتمام يتولد لديهم مشاعر الرعب والكراهية داخل قفص العزلة السامة، وينتج عن هذه الأحداث معاناة قلق لا يُطاق لأن حياة الطفل معرضة للخطر، ويلجأ الطفل بدايةً إلى الشكوى والبكاء، لكنه عندما يلاحظ عدم اكتراث الآخرين سينطفئ تمامًا، لأنه تعلم أن بيئته لا يُعتمد عليها ولن يثق بها مرة أخرى، فينهار مسار حياته التطوري وقدرته على تكوين ارتباطات صحية. وعدم وصول الأطفال إلى هذه المراحل التطورية الضرورية وفشلهم في تطوير القدرة على الشعور بالآخرين يؤدي إلى افتقارهم إلى سمة التعاطف التي تجعلنا بشرًا. لا يستطيع هؤلاء الأفراد رؤية التعاطف في الآخرين، ولهذا السبب لا يوجد ما يردعهم عن استخدام الأشخاص لإرضائهم كأنهم مجرد أشياء.

افترض طبيب الأطفال والمحلل النفسي دولاند وينيكوس أن الطفل الذي تلقى الرعاية في البداية ثم حُرم منها لاحقًا فجأةً سيشعر أنه يستحق ما فقده وسيحاول استعادة تلك الخسائر بطرق تعكس عدم قدرته على التكيف، ما يفسر الاختلاف بين شخص يرتكب فعلًا غير أخلاقي عرَضًا وآخر يعاني اضطرابات تطورية شاملة.

يُعد غياب الاهتمام مصدر السمات التي تصف الاضطرابات العقلية والاجتماعية، يعكس برود هؤلاء الأشخاص فقدانهم للتعاطف أو الشعور بالذنب، وينتج ذلك عن فشل بيئي وهو ليس شرًا متأصلًا كما هو شائع، وهم يعرفون الفرق بين الخطأ والصواب لكنهم ببساطة لا يهتمون، فأخلاقهم مقيّدة برغبات الطفولة التي لم تُلبَّ، وبوصلتهم ببساطة: «ما هو جيد لي جيد، وما هو سيء لي سيء» ولا يهمهم الجيد والسيء للآخرين، وينظرون إلى الجميع عبر عدسة مشوّهة أنهم لا يُعتمد عليهم كما كانت الأم ذات يوم، ويستحقون أي قسوة يتعرضون لها.

هؤلاء الأشخاص محرومون من الإنسانية وأصيبوا بأضرار جسيمة، لم يختبروا أي علاقات آمنة عندما كانوا أطفالًا، ويعجزون الآن عن تكوين علاقات مبنية على الاهتمام المتبادل. إن ظهور اضطرابات الشخصية له أثر كبير في مجتمعنا وثقافتنا.

يُشار إلى هذه الخصائص سريريًا بأنها معادية للمجتمع، وتتراوح من سمات عابرة إلى اضطرابات شخصية خطيرة، وتتحدد بتجاهل وانتهاك حقوق الآخرين، ويتصف هذا النمط المتجذر في الطفولة بقلة الندم والخداع والعدوانية وعدم المبالاة ليستمر عند البالغين.

يتصور معظم الناس عندما يفكرون في الاعتلال الاجتماعي قتلة متسلسلين ذُهانيين مثل جيفري دامر أو تيد بندي، لكن السلوك المُعادي للمجتمع أكثر انتشارًا وأقرب للجميع، ومع أنه يوجد فرق بين الأفعال المعادية للمجتمع واضطراب الشخصية الشامل، فإن السلوك المعادي للمجتمع يؤدي إلى جرائم مالية، إذ أدى الافتقار إلى التعاطف والندم، والجشع غير المقيد إلى الكوارث المالية الحالية، منها كوارث القروض والسندات غير المرغوب بها، وسمح للمديرين التنفيذيين لشركات التبغ بالكذب على الشعب ومجلس الشيوخ بشأن مخاطر التدخين في حين يموت الناس بالآلاف.

السياسيون معادون للمجتمع بدرجة لافتة، هم غالبًا يقولون ويفعلون أي شيء لتحقيق أهدافهم بصرف النظر عمن يتأذى بذلك أو يتعرض للاستغلال، هذا يفسر ندرة انتخاب رجال الدولة، فأمانتهم وتعاطفهم وشعورهم بالندم يمنعهم من إيجاد مبررات للوسائل التي يستخدمونها لتحقيق غاياتهم.

يشعر معظمنا بالذنب عندما يكذب، أما الأشخاص ذوو الصفات المعادية للمجتمع فلا يفعلون ذلك، بل إنهم يسعدون في كل مرة يفلتون بها من العقاب، سعيًا للانتقام من البيئة التي أحبطتهم وهم أطفال. وكان جيفري دامر -الذي شارك في أكل لحوم البشر- يمثل شكلًا مشوهًا للرضاعة الطبيعية، مستخدمًا لحمًا بشريًا حقيقيًا، رمزًا للتغذية التي لم يتلقاها عندما كان رضيعًا، لكن الرضا الذي يشعر به يكون سريع الزوال لأن الجوع العاطفي غير قابل للإشباع والجرح الداخلي لا يلتئم أبدًا.

ما هي الآثار المترتبة علينا جميعًا؟ تُزرع بذور الاعتلال الاجتماعي والأخلاقي منذ الطفولة. الطفل الذي تلقى العاطفة يمكنه أن يمنحها، أما الطفل الذي لم تُلَب حاجاته العقلية والجسمية كفاية فسيعيش بقية حياته كآلة، مفتقرًا إلى السمات التي تجعلنا أكثر إنسانية. قد يمنع الإنقاذ الحكومي الانهيار المالي، لكن معالجة هذه الظواهر يتطلب إصلاح المشكلات العاطفية في المجتمع.

بدلًا من البحث عن الشر، من الأفضل التفكير بالطرق التي يمكننا بها -بوصفنا أعضاءً في المجتمع- مساعدة الوالدين على التعامل مع أطفالهم بفعالية أكثر، سيما في الفترات الحرجة من حياة الطفل. التدخل المبكر أمر ضروري، وعندما توضع السلامة العاطفية في الميزان، فإن درهم وقاية تكافئ بالتأكيد قنطارًا من العلاج.