د. مينا ملاك عازر
في هذا المقال نختم سلسلتنا ونحلل كيف كان الدور الأمريكي وكيف توصلت الإدارة المصرية لضرورة القفز لنقطة الحرب.
ومما سبق يتضح لنا أن الجانب الأمريكي لم يرد لعب دوراً نزيهاً لإحلال السلام في المنطقة، وذلك لتأثره بالنصر الإسرائيلي الكبير، وثقته في عدم قدرة العرب على تغيير الوضع عسكرياً، لذا وضع شروط تحقق أكبر مكاسب ممكنة للجانب الإسرائيلي فكان الإجحاف، كما كان يهدف الأمريكيون من محادثاتهم إلى إبرام اتفاق مرحلي لإعادة فتح قناة السويس، بينما كان حافظ يصر على تسوية شاملة.
ويبدو أن السادات أدرك ذلك البون الشاسع بين موقفي طرفي التفاوض المصري والأمريكي، ومن ثم أصر على دعم الجيش المصري بالسلاح اللازم لتحريك الموقف أو على الأقل لدعم موقف التفاوض، فما كان منه إلا أن رحب بحضور وفد عسكري سوفييتي للقاهرة لدراسة مطالب مصر واحتياجاتها من السلاح، وفعلاً حضر الوفد في فبراير 1973، وتلى ذلك زيارة الفريق أول أحمد إسماعيل – وزير الحربية المصري– إلى موسكو في مارس، وقد تمكن خلال هذه الزيارة من التعاقد على شراء صفقة أسلحة متطورة، كما اتفق على تمركز طائرات ميج 25 وسرب استطلاع وإعاقة إليكترونية في مصر، وكذلك تواجد وحدات بحرية بميناء بورسعيد.
وعلى الجانب الآخر، استمرت المفاوضات مع الولايات المتحدة، ففي أوائل شهر إبريل بعث حافظ إسماعيل برسالة إلى كيسنجر، موضحاً فيها موقف مصر من بعض النقاط التي أثيرت في اجتماعهما الأول، وكان رد كيسنجر في 11 أبريل مرحباً بعقد لقاء ثانٍ، مما أوجد تفاؤلاً بإيجابية الدور الأمريكي، لكن ذلك لم يستمر طويلاً، حيث صرح نيكسون في 18 أبريل عن تشككه في قدرة البيت الأبيض أن يلعب دوراً مفيداً في قضية الشرق الأوسط، وهو الأمر الذى نظر إليه المصريون على أنه ضغط من الولايات المتحدة لصالح حليفتها إسرائيل.
وإزاء هذا التصريح شن السادات هجوماً عنيفاً على الولايات المتحدة أثناء إلقاء خطابه بمناسبة عيد العمال في أول مايو 1973، الذي حدد فيه موقف مصر
على النحو التالي:
اتهام الرئيس الأمريكي بأنه أقر خطة العدوان في عام 1967.
أن هدف الولايات المتحدة هو الحفاظ على وقف إطلاق النار، ومحاولة أن تحقق بالتفاوض ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه بالحرب.
أن مصر ترفض حلاً مرحلياً أو حلاً منفرداً.
الدعوة لبدء المواجهة الشاملة التي يتسع نطاقها إلى ميدان الطاقة.
ممارسة العمل السياسي قبل وخلال وبعد المعركة.
تعبئة الدول غير المنحازة والأفريقية للوقوف مع الدول العربية.
وقد استثار هذا الخطاب الاتحاد السوفييتي الذى رأى فيه تحولاً أكيداً نحو الحرب، ففي 4 مايو بعث بريجينيف برسالة إلى السادات، تضمنت بعض النقاط وانتهت إلى اقتناعه بأن الأمريكيين يبذلون جهدهم للمشاركة في حل الأزمة، وعرض أن تتجنب مصر الإقدام على أي عمليات حربية لحين عقد مؤتمر قمة أمريكي سوفييتي لمناقشة حل هذه الأزمة، كما طالب بضرورة تفعيل دور الأمم المتحدة، واستمرار التشاور بين موسكو ومصر على أساس المعاهدة الموقعة بين الدولتين.
وتفعيلاً لما جاء برسالة بريجينيف، فقد سافر كيسنجر إلى موسكو في نفس الوقت، والتقى مع أندريه جروميكو Andrei Gromyko - وزير الخارجية السوفييتي - الذى قدم له وثيقة تتكون من تسعة مبادئ بشأن التسوية العربية الإسرائيلية والتي تدعو إلى الانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى خط 4 يونيو عام 1967م.
وبعد عودة كيسنجر من موسكو، وفى 20 مايو عام 1973 التقى وحافظ إسماعيل خارج باريس، لمناقشة دور البيت الأبيض في حل الأزمة، واعترض حافظ على إغداق الولايات المتحدة في تسليح إسرائيل، ولم يتم حسم القضايا التي سبق طرحها في لقائهما في فبراير من نفس العام، وأصر حافظ على أن السلام النهائي رهن بحل قضية فلسطين، وأوضح كيسنجر استراتيجيته التي تتلخص في محاولة التوصل إلى اتفاق أمريكي سوفييتي، يليه مفاوضات بين الأطراف المعنية، وأنه يرغب في إجراء مزيد من المحادثات، وعند عودة حافظ للقاهرة أرسل رده إلى كيسنجر في 3 يونيو متحفظاً، فقد بدأ المصريون يتشككون من قدرة نيكسون على تحقيق نتائج ملموسة لحل الأزمة لوجود مشاكل داخلية تعترضه في بلاده.
ومما تقدم يتضح، أن ثمة تغيراً سلبياً قد طرأ على الدور الأمريكي، والذى يتضح فيما انتهى إليه مؤتمر القمة بواشنطن في 23 يونيو عام 1973م دون حدوث أي تقدم، وكان أبرز ما جاء فيه هو تحذير بريجينيف من أن المصريين والسوريين عازمون على الحرب، وهو الأمر الذى لم تأخذه الولايات المتحدة بجدية، حتى أن دورها في مباحثات السلام قد تجمد.
وبذلك نكتشف أمران أن السوفييت لم يكونوا محايدين بحق، إذ كانوا خائفين غير واثقين في الجندي المصري للأسف جراء ما تجرعوه في حربي العدوان الثلاثي وما عُرِف بالنكسة، والثاني أن أمريكا أخطأت التقدير ولم تصدق تحذير بريجينيف، فكان عليها أن تذوق المر وتفاجأ مثلها مثل الجميع في السادس من أكتوبر ببركان الغضب المصري
.
المختصر المفيد النسر المصري شق السماء، وضرب وكتب أعظم ملحمة.