كتب – روماني صبري
كتب المطران كريكور اوغسطينوس كوسا، أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك، رسالة رعوية جديدة، جاء فيها :
"روح الربّ عليَّ لأنه مسحني لِأُبَشِّرَ الفقراء وأرسلني ... " (لوقا ٤ : ١٤ : ٢٤)
نبوءة أشعيا النبي ، التي سبقت مجيء السيد المسيح بأكثر من سبعمائة سنة ، تحقّقت في شخص المسيح يسوع . لقد ملأ الروح القدس حياته لفداء وخلاص البشرية جمعاء ، فأرسله الله الآب الى العالم نبياً وكاهناً وملكاً :
١ - نبيّاً بامتياز ، يُعلن كلمة الله ، وهو نفسه الكلمة " فالكلمة صار بَشَراً فسكنَ بيننا " (يوحنا ١ : ١٤)
٢ - كاهناً بامتياز يقدّم ذبيحة العبادة ، وهو الذبيحة .
٣ - ملكاً بامتياز، يبني ملكوت الشركة بين الله والبشر وهو نفسه هذا الملكوت .
فلمّا دخل يسوع المجمع يوم سبتٍ، قرأ النبوءة من أشعيا : "روح الربّ عليّ، مسحني وارسلني" (لوقا٤ :١٨). ولما انتهى من قراءة السفر قال للحاضرين : " اليوم تمّت هذه الكتابة التي تُليت على مسامعكم " (لوقا ٤ :٢١).
أثناء تأملنا إنجيل اليوم ، نجدّد إلتزامنا المسيحي بمسحة الروح القدُس التي نلناها بسري المعمودية والميرون المقدسين ، وقد أعطانا هذين السرين " الكيان المسيحي " على صورة يسوع المسيح ، وأشركنا في رسالته المثلّثة : النبوية والكهنوتية والملوكية.
هذا الكيان المسيحي والرسالة يحدّدان معنى وجودنا كمسيحيّين في العالم وفي الشَّرق الأوسط خاصةً ، على صورة المسيح في ضوء نبوءة أشعيا التي تحققت في شخصه أولاً ثمّ فينا نحن المؤمنين به .
المسيح نبي : " يبشّر المساكين " . يعلن إنجيل الخلاص، كلمةً هادية للعقول والضمائر . و "المساكين" هم الناس السالكون في الظلمة : يحتاجون إلى نور الحقيقة في ظلمات الجهل والكذب والضلال . وإلى نور المحبة في ظلمات البغض والحقد والعنف والعداوة . وإلى نور العدالة في ظلمات الظلم والاستبداد والاستكبار . وإلى نور السلام في ظلمات الحرب والنزاع والإرهاب .
المسيح كاهن : " يحرّر الأسرى والمظلومين ويعيد البصر للعميان " . إنّه الكاهن الذي افتدى بموته جميع الناس، وأقامهم لحياة جديدة بقيامته . و" الأسرى " هم الذين استُعبدوا للخطيئة والشَّر، وصاروا مقيَّدين بسلاسلها . و" المظلومين " هم الذين طغت عليهم الأرواح الشريرة ، والذين يستغلّهم آخرون ويحملونهم على إرتكاب الخطيئة والشرور . و" العميان " هم الذين زاغت عقولهم عن نور الحقيقة ، والذين خنقوا صوت الله في ضمائرهم . إن نعمة الفداء تشفي جميع هؤلاء . فدمُ المسيح المُراق على الصليب يغسل بالغفران قلوبهم وعقولهم وضمائرهم من الخطيئة ونتائجها .
وأخيراً المسيح ملك : " يعلن زمناً مرضيّاً للربّ " . هو زمن الروح القدس، زمن الحقيقة والمحبة والعدالة والحرية والسلام ، هذه المعروفة بقيم ملكوت المسيح .
فالكيان المسيحي ، الذي نلناه بالمعمودية والميرون، أشركنا بوظائف المسيح ، وجعل من جماعة المسيحيِّين ، كما يقول بطرس الرسول ، شعباً جديداً وهيكلاً روحيّاً وكهنوتيّاً مقدَّساً ، من أجل أن يقدّموا بأعمالهم ذبائحَ روحيةً ، ويعلنوا عظائم الله الذي دعاهم من الظلمة إلى النور المجيد (بطرس الأولى ٢ : ٥).
يُعلّمنا البابا القديس يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي : " العلمانيّون المؤمنون بالمسيح " ، أن المسيحيين مدعوّون لممارسة مسيحية في شؤونهم العائلية والزمنية ، لأن البشرى الإنجيلية تنير جميع الشؤون البشرية ، لتجعلها أداة خير وسعادة وخلاص لجميع الناس .
فمشاركتنا في خدمة المسيح النبوية تؤهّلنا لقبول كلمة الإنجيل بالإيمان ، وللشهادة لها بالأعمال ، مندّدين بالشر بجرأة . وتدعونا لتجسيد الإنجيل في حياتنا العائلية والاجتماعية .
ومشاركتنا في خدمة المسيح الكهنوتية تشجّعنا لنتّحد بذبيحته في القداس، ونقدّم معها قرابين أعمالنا وصلواتنا ونشاطاتنا وحياتنا الزوجية والعائلية ، وأشغالنا اليومية ، وأفراحنا وأحزاننا وأتعابنا .
ومشاركتنا في خدمة المسيح النبوية تدعونا لخدمة ملكوت الله ، ملكوت الحقيقة والمحبة ، ملكوت العدالة والحرية والسلام (الإرشاد الرسولي للبابا القديس يوحنا بولس الثاني : العلمانيون المؤمنون بالمسيح، رقم ١٤).
هذه المشاركة بحكم المعمودية والميرون تُسمّى كهنوت المسيح العام ، كما يشرحها القديس أوغسطينوس بقوله : " كما أنّنا نُدعى جميعنا مسيحيين، بسبب مسحة الميرون السّرية ، كذلك نُدعى جميعنا كهنة ، لأنّنا جميعاً أعضاء في جسد المسيح الكاهن الأوحد " .
إنَّنا مثل أشعيا نصغي إلى كلمة الله لكي يرسلنا لنعلنها نوراً وهداية في الظلمة والضياع، وتعزيةً في الكآبة والحزن، ورجاءً في اليأس والقنوط، وإيماناً في الشك والتردّد، وتأنيباً في الخطأة ، وتهديداً في ارتكاب المعاصي، وخلاصاً للتائبين . والكلمة هي يسوع المسيح فادي الإنسان ومخلّص العالم الذي أعلنه أشعيا قبل التجسّد بسبعمائة سنة مولوداً من مريـم البتول ، فكان عمّانوئيل " الله معنا ". فاستحقَّ هذا النبي من كبار أنبياء العهد القديم ، أن يلقّب " أوّل الانجيليّين " ، كما سمّاه القديس إيرونيموس .
إننا مثل أشعيا، النبي وعلى ضوء الإرشاد الرسولي " الكنيسة في الشرق الأوسط شركة وشهادة " نرسم الطريق المؤدّي الى الله ، وبالتالي الى التآخي والسلام، والى المحبّة والغفران، وإلى الحقيقة والحريّة، والعدالة والإنصاف .
أجلّ، نحن كمسيحيين موسومين بمسحة المعموديّة والميرون، ومع بطاركتنا وأساقفتنا وكهنتنا بمسحة الكهنوت ، والبعض الآخر بتكريس النذور الرهبانية، ملتزمون بمسحتنا مثل أشعيا الذي أعلن: "روح الربّ عليَّ مسحني وأرسلني لأبشّر المساكين، وأجبر منكسري القلوب، وأُنادي للأسرى بالإفراج، وللنازحين بالعودة، وأُعلن زمنًا مرضيًّا للرب" (أشعيا ٦١ : ١).
وأيضاً في زمن الانحرافات والكبرياء والنزاعات والفساد والالتواء ، نحن مثل أشعيا " صوتُ منادٍ في البريّة أعدّوا طريق الرب واجعلوا سبله قويمة ، فالمنخفض يرتفع، والمنعرج يتقوّم، والطريق الوعر يصير سهلاً ، فيتجلّى مجدُ الربّ، ويعاينه كلُّ بشر " (أشعيا ٤٠: ٣-٥) . ووسط الحروب وموجات العنف والقتل والدمار التي تجتاح بلدان العالم . نحن نواصل كلمة أشعيا المعزّية لشعبه المُبدّد : " عزّوا، عزّوا شعبي يقول إلهُكم ... كلُّ شيء يفنى وييبس كالعشب ... وأما كلمةُ إلهِنا فتبقى للأبد " (أشعيا ٤٠ : ١ - ) .
وتبقى لنا جميعاً ، ولكلّ مسؤول في العائلة والكنيسة والمجتمع ، كلمة أشعيا النبي ، والتي طبقها الربّ يسوع في حياته : " روحُ الرّبِّ عليّ لأنه مسحني ... وأرسلني لأُبشِّر "