كمال زاخر
يأتى تناولنا لهذا الكتاب لما يدور حول "الاعتراف" من جدل ممتد، ومتشعب، فهو جدل جيلى، وجدل عقيدى، وجدل فكرى، وما تحمله سطور الكتاب من سعى جاد وموضوعى لعرض رؤية الكنيسة عبر تاريخ ممتد له، ماهيته، ومعناه، والتطورات التى اعترت ممارسته، والمراحل التاريخية التى عبر بها، بدءً من كنيسة الرسل، وحاله فى القرون الوسطى فى الشرق المسيحى، وفى ذات الفترة فى الغرب المسيحى، ليصل بنا إلى العصر الحالى.
ويلحق الكاتب بكتابه النص الحرفى لمخطوط من القرن الثانى عشر الميلادى، لواحد من القساوسة الأقباط فى ذاك القرن؛ القس مرقس بن القنبر" بعنوان "المعلم والتلميذ"، وكلاهما ـ "القس والمخطوط" ـ كانا مثيران للجدل. وسنعرض لهما فى سياق طرحنا هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ فى مصطلح "السر" كنسياً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب الذى نعرض له يشرح "مفهوم الإعتراف فى الكنيسة، وغايته الأساسية التى هى عودة التائب إلى شركة الجماعة"، وحتى يستقيم فهمنا له استأذن القارئ فى عرض مصطلح "السر" فى المفهوم الكنسى، ولن نذهب بعيداً عن الكاتب، فقد تناول شرح هذا المصطلح فى كتابه "معجم المصطلحات الكنسية".
اللافت فى رحلة بحثى عن دلالات مصطلح "سر" فى الفكر الكنسى أن كنيستنا لم تنشغل بالتنظير كثيراً، فنجد المحدثين من الباحثين اكتفوا بنقل ما استقر فى الكنائس التقليدية بالغرب، التى اعتمدت ما ذهب إليه القديس اغسطينوس (354 ـ 430م) فى تعريفه للسر بأنه "شكل منظور لنعمة غير منظورة"، أو "علامة لشئ مقدس".
"أما الكنيسة الشرقية ـ بحسب معجم المصطلحات الكنسية ـ فلم تهتم كثيراً بتفسير قانونى أو منهجى لكلمة "سر"، إذ ترسخ فى وجدانها وتعاليم آبائها "أن السر هو حياة إلهية، وفعل إلهى فائق على الإدراك أودعه الله فى الكنيسة، لمنفعة المؤمنين وخلاصهم، فعاشوا ينعمون بسر المسيح والكنيسة، بسر الثالوث والخلاص، دون اجتهاد لتفسير معنى كلمة "سر".
فكل اجتهاد فى تفسير قانونى لكلمة "سر" يُزيده غموضاً على غموض"، ويوضح الكاتب ما يقصده بقوله "إذا استطعنا أن نفسر أو نشرح معنى "السر" ما صار السر سراً بعد. ولكن كل اجتهاد وسعى فى هذا الشأن هو محاولة استيضاح لجوانب السر الكنسى، فى ادراك جزئى له، على قدر ما يستطيع العقل أن يعقل لهذا الفعل الإلهى العظيم، الذى عمله المسيح له المجد فى كنيسته المقدسة، ليس منذ يوم ظهوره بيننا على الأرض فحسب، والذى هو فى ذاته "سر التقوى"، بل وأيضاً منذ ما قبل الدهور."
وقد توقفت كثيراً أمام كلمات الكاتب فى هذا الصدد والتى يقول فيها "إن كتابات الآباء فى الكنيسة الأولى، تشرح وتفسر الأسرار من داخل الاحتفال الليتورجى الفعلى بها، كون الليتورجيا هى حياة الكنيسة وإيمانها، فالسر الكنسى ملتحم بالليتورجيا، ولا يكمل بدونها، فالشركة فى الحياة الليتورجية فى الكنيسة هى الضمان الوحيد لتفسير السر تفسيراً اختبارياً حياتياً معاشاً".
ربما فى توقفنا مع تلك الكلمات ندرك سبب حالة التراجع فى فهم وممارسة الأسرار الكنسية، ورفض البعض لها، لفصلها عن الليتورجيا، وسر التجسد، والذى فيه صرنا اعضاء فى جسد المسيح، من لحمه ومن عظامه، وبحسب الكاتب "فإن عزل "السر" عن الليتورجيا، جعله أداة نعمة قائمة بذاتها، فأفقد الليتورجيا وظيفتها، والتى هى استعلان السر وغايته، فسر الإنجيل نفسه لا يستعلن إلا من داخل الكنيسة ونظام عبادتها وصلواتها، لأن معرفة الإنجيل نفسه إذا لم تؤد إلى حياة كنسية تقويَّة، تظل معرفة انجيلية عقلية حتى وإن لبست هذه المعرفة ثوباً من تأملات روحية، أو تفسيرات لاهوتية. فإن كنت تحب الإنجيل، فليظهر هذا من خلال حياة شركة فعلية تحياها فى الكنيسة المقدسة، بأسرارها وليتورجيتها."
ما فهمته هنا هو أن "الأسرار" هى ترجمة للحياة فى المسيح، وبحسب الكاتب "أننا لا نستطيع أن نفصل أسرار الكنيسة عن أسرار اللاهوت، أى الجسد عن الرأس، لأن المسيح هو رأس الكنيسة (أفسس 23:5)، والكنيسة هى جسد المسيح (كولوسى 24:1)"، والكنيسة عبر اسرارها وممارساتها تعلن المسيح.
وفى ايجاز يقول الكاتب :
ـ "ظلت أسرار الكنيسة وأسرار اللاهوت فى حياة الكنيسة الأولى ملتحمة بليتورجيتها، ومختبرة فى الكنيسة بحياة عابدة، ملؤها الإيمان والتقوى، يتذوقها الإنسان، شاهداً ما أطيبها. فيؤمن بها بدون تحديد مدرسى لمفهومها، أو تعريف وتصنيف لها."
ـ "إن السر الكنسى هو مصدر العلاقة بين الله والإنسان، وفى ذات الوقت مجال تحقيقها الوحيد، فبالسر الكنسى ننال حياة الله فينا، وبالسر الكنسى يسكب الله فينا كل هباته وعطاياه ومواهبه وأسراره. فهى باب دخولنا إليه، أو بالحرى دخوله إلينا، أى وسيلة سكناه فينا. هذا ما تفعله الكنيسة لنا، وتحققه الأسرار فينا."
ـ "وهكذا تلتحم الحياة الليتورجية فى الكنيسة مع مضمون أسرارها، فتمتزج التقوى باللاهوت. فالليتورجيا تكمِّل السر الكنسى، والسر الكنسى يحقق الليتورجيا، فتصبح العبادة هى مصدر العقيدة."