يوسف سيدهم
العالم كله تحتبس أنفاسه ترقبا لما تسفر عنه الانتخابات الأمريكية التي دخلت مرحلة العد التنازلي نحو يوم الحسم 3 نوفمبر المقبل أي بعد ما يزيد قليلا علي ثلاثة أسابيع, خاصة وأننا نعايش فترة المناظرات الرئاسية التي بدأت في الأسبوع الأخير من سبتمبر الماضي وتستمر خلال هذا الشهر بكل ما تحمله من ترقب وإثارة -كما هو المعتاد عبر تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية- علاوة علي ما كشفته حلقتها الأولي في دورتها الراهنة بين المرشح الجمهوري الرئيس دونالد ترامب الذي يسعي للحصول علي فترة رئاسية ثانية وبين المرشح الديمقراطي جو بايدن من سلوكيات وسيناريوهات صادمة تكاد تكون غير مسبوقة في التدني الأخلاقي والتجاوزات اللفظية عبر تاريخ تلك المناظرات التي بدأ تقليد تنظيمها منذ ستين عاما -في سبتمبر 1960- بين مرشحي الرئاسة آنذاك جون كنيدي الديمقراطي ومنافسه ريتشارد نيكسون الجمهوري.
لست بصدد الخوض في تحليل سياسي أخلص منه إلي أي من المرشحين ترامب أو بايدن سيفوز في الانتخابات, فمعايير ترجيح كفة أحدهما معقدة للغاية, وما تشهد به نتائج المناظرات الرئاسية السابقة يقدم حشدا من الغرائب ترقي إلي اللامعقول والتي تدخلت في ترجيح كفة مرشح عن الآخر وهي أبعد ما تكون عن السياسات والخطط والمشروعات إنما تتجاوزها إلي شكل المرشح وتعبيرات وجهه وإيماءاته وطريقة جلوسه واتجاه نظراته وفصاحته في الكلام… وكأن المناظرات مقامة لاختيار ممثل سينمائي في هوليوود!!.. والأعجب أنه حتي مع سطوة تلك المعايير علي مزاج الناخبين فإن النتائج النهائية لصناديق الانتخاب ومن بعدها أصوات المجمع الانتخابي لم تخل من فوز المرشح الأقل تفوقا في استطلاعات الرأي التي تزدهر في مواسم الانتخابات.. هذا بالإضافة إلي أن الناخب الأمريكي مغرق في المحلية وما يحسم صوته في النهاية أمور وقضايا داخلية ولا تعنيه إطلاقا القضايا العالمية أو السياسات الخارجية لبلاده والتي تتبوأ بسببها قمة وصدارة دول العالم.
لكني وأنا أعترف أن ما يشغلني لا تأثير له البتة علي نتيجة من يصل إلي البيت الأبيض, لا أستطيع غض الطرف عن مجموعة من السياسات التي تميزت بها فترة الرئاسة الأولي للرئيس ترامب -2020/2016- والتي أري أنها عصفت بالسلام والاستقرار العالمي بدرجة خطيرة, والأخطر أن فوزه بفترة ثانية لن يعني مضيه قدما في تلك السياسات الكارثية فقط, إنما ما يمثله له فوزه من اعتباره أن المواطن الأمريكي يكافئه علي تلك السياسات ويوافقه علي الاستمرار فيها, وهو المواطن الذي لا تعنيه سوي الأمور الداخلية وموازين سوق العمل والدخل ومستوي المعيشة والخدمات وما إلي ذلك… ولأني تابعت سياسات ترامب الخارجية منذ دخوله البيت الأبيض ولم أستطع إخفاء قلقي وتوجسي إزاءها فقد عبرت عن ذلك بعد أن تريثت نحو عام ونصف علي انفلاته عالميا وكتبت الآتي:
** بتاريخ 2018/5/20 تحت عنوان سياسات ترامب تعيث فسادا في النظام العالمي تناولت وعوده للناخب الأمريكي في أن شعار حملته الانتخابية هو أمريكا أولا لكن الأمر الكارثي أنه بعد أقل من عام ونصف تحول هذا الشعار بفضل سياساته الجامحة إلي أمريكا وحدها بعد أن أطاح بحلفائه وأصدقائه ومستشاريه ومساعديه ولم يعبأ بأحد… وأعطي أسوأ المثل لرجل الأعمال منعدم المبادئ الذي يقول: النجاح مع الآخرين لا يعنيني, إنما طعم النجاح الذي أتوق له هو ما يتحقق علي جثث الآخرين!!!… وفي هذا السياق ظل يصدم دول العالم ويحطم إرثا عظيما لإنجازات الأسرة العالمية نحو إدراك الوفاق والسلام العالميين, فلم يتورع عن الانسحاب من اتفاق المناخ وما يشمله من مراعاة عدم تلويث البيئة وعلاج أسباب الاحتباس الحراري والاتجاه نحو الطاقة النظيفة… وتبع ذلك بالانسحاب من اتفاق التجارة العالمية فعصف بمصالح شركاء أمريكا وحلفائها قبل أعدائها وفتح شهية الجميع للرد علي الأضرار التي حاقت بهم بالمثل فتحول وئام العالم إلي صراع مدمر… ولم يكفه ذلك فاندفع دون استشارة شركاء أمريكا نحو الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران المعروف باسم 5+1 وذلك وسط اعتراض ورفض أولئك الشركاء حتي يومنا هذا وبقائهم ملتزمين ببنود الاتفاق.
** بتاريخ 2018/6/24 تحت عنوان ليس العالم وحده ثائرا علي سياسات ترامب.. بل عقلاء أمريكا أيضا تناولت الخطوة الدعائية التي أقدم عليها بإعلانه الاتفاق مع كوريا الشمالية لتحييد برنامجها النووي, لكن المحللين فشلوا في التقاط معايير محددة لالتزامات الطرفين ونعتوا الاتفاق بأنه فضفاض ولن يفضي إلي شيء… هذا علاوة علي القلق المتزايد لدي عقلاء أمريكا من استمراره في الإطاحة بكل معارضيه ومستشاريه ومن لا ينصاعون لأهوائه… ثم جاءت مخاوف المحللين من تماديه في عدم احترام معايير التوافق والاستقرار والمصالح المشتركة التي جري ترسيخها بين القوي العظمي وأعضاء الأسرة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية سياسيا واقتصاديا وعسكريا وما أخلفه ذلك من طابور طويل من الأصدقاء والمتنافسين الذين جري استفزازهم وإدخالهم في صراعات مع أمريكا, طابور ضم في صدارته روسيا, الصين, كندا, المكسيك, ألمانيا, إيران, كوريا الشمالية… وكان أن صرحت القيادات السياسية في بعض تلك الدول تصريحات خطيرة مؤداها كيف يمكن الثقة مرة أخري في اتفاقات أو التزامات مع أمريكا بعد الآن؟
** بتاريخ 2018/9/2 كتبت تحت عنوان العالم يحبس أنفاسه حول مصير ترامب.. تناولت انسحاب أمريكا من منظمة اليونسكو وتلويحها بالانسحاب من حلف الناتو وما سببه ذلك من ارتباك تلك الكيانات العالمية وهز ثقة المشاركين فيها من جدوي الارتباط بأمريكا, الأمر الذي أجج مواقف دول كثيرة تدعو لإعادة النظر في ارتباطها بأمريكا التي بفضل ترامب لا تتورع عن العصف بكل مبدأ وكل التزام, حتي أن خبراء سياسيين ومحللين عبروا عن مخاوفهم من تدني سمعة أمريكا في العالم وقال أحدهم: حتي مع ذهاب ترامب لست أدري كم من السنوات ستحتاج أمريكا لإصلاح ما أفسده من علاقات ولاستعادة ثقة دول العالم في منظومة القيم والمثل والمبادئ التي غرسها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة.
** لست أغفل سياسات الصلف والغطرسة التي تصرف بها ترامب في تعامله مع الحقوق الفلسطينية والعربية والتي بدأت بإعلان أمريكا اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل وبسيادة إسرائيل علي مرتفعات الجولان السورية ضاربا بكل قرارات منظمة الأمم المتحدة عرض الحائط.. ثم تماديه بفرض الأمر الواقع علي خريطة الدولة الفلسطينية فيما أطلق عليه صفقة القرن من السماح لإسرائيل بالتوسع في إقامة المستوطنات وضم الأراضي ومطالبته السلطة الفلسطينية بالإسراع في قبول الأمر الواقع وإلا تفقد كل شيء وهو التطور الكارثي الذي لم ينقذ المنطقة من تداعياته سوي المصالحة الأخيرة بين دولتي الإمارات العربية والبحرين مع إسرائيل وهي المصالحة المشروطة بتجميد ضم الأراضي الفلسطينية وما تمثله من طوق النجاة من تأجيج الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مجددا.
** لا يمكنني أن أفتح هذا الملف دون أن أشيد بحكمة القيادة المصرية في تعاملها مع هذا الرئيس المتأرجح الذي يعصف بكل شيء وبأي شيء, ويتجلي ذلك في التزامها بالمصالح الاستراتيجية المصرية وتفادي الصدامات والحرص علي تنمية العلاقات مع سائر المؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية الأمريكية وعدم قصرها علي البيت الأبيض.
*** هذه رؤيتي من موقعي كمصري ومن منظوري تجاه ما حاق بالعالم من جراء رئيس أمريكي يسعي لفترة رئاسة ثانية… لكني أعود وأكرر أن كل ذلك للأسف لا يدخل في حسابات المواطن الأمريكي أمام صندوق الانتخاب… وتلك من الأعاجيب التي تستعصي علي الفهم!