مراد وهبة
عبارة قد تبدو غريبة، وغرابتها مردودة إلى أنها تشى بأن العلمانية ضرورية للتفلسف، أى ليس فى إمكان الإنسان أن يتفلسف إلا إذا كان علمانيًا. ولكن الغرابة تزول إذا انتبهنا إلى مولد الفلسفة عند فلاسفة اليونان الأقدمين ابتداءً من فيثاغورس فى القرن السادس قبل الميلاد، حيث اشتهر بابتداع نظريتين: نظرية البرهان التى هى أساس علم المنطق عند أرسطو، وأساس علم الهندسة عند إقليدس. أما النظرية الثانية فهى نظرية دوران الأرض التى ذهب فيها إلى أن مركز العالم يجب أن يكون مضيئًا بذاته لأن الضوء خير من الظلمة، ويجب أن يكون ساكنًا لأن السكون خير من الحركة. ولهذا فإن الأرض ليست مركزًا للعالم، إذ هى مظلمة وبها نقائض كثيرة. بيد أن فيثاغورس كان يحذر تلاميذه من إعلان هذه النظرية. وقد كان محقا فى هذا التحذير. فبمجرد أن تخلى تلاميذه عن هذا التحذير أحرقت الدار التى كان يجتمع فيها تلاميذ فيثاغورس. وقيل إن فيثاغورس وقتها كان متغيبًا عن الدار يوم الحريق. وفى القرن الخامس قبل الميلاد تطورت العلمانية فى المدرسة الفلسفية المسماة بـ «السوفسطائية». وهذه الكلمة مشتقة من الكلمة اليونانية Sophos ومعناها «المعلم» فى أى فرع من فروع العلم. ويأتى فى مقدمة هذه المدرسة بروتاغوراس. نشر كتابًا سمّاه «الحقيقة» جاء فيه عبارة اشتهر بها وهى أن «الإنسان مقياس الأشياء جميعًا»، ومعناها أن أحكام الإنسان محكومة بالنسبية بحكم نسبية عقل الإنسان. يقول فى مفتتح كتابه «ما الحقيقة؟»: «لا أستطيع أن أعلم إن كان الآلهة موجودين أم غير موجودين، فإن أمورًا كثيرة تحول بينى وبين هذا العلم أخصها غموض المسألة وقصر الحياة». وبسبب هذه العبارة حكم عليه بالإعدام وأحرقت كتبه علنًا ففر هاربًا ومات غرقًا فى أثناء فراره. ومغزى هذه العبارة أن الإنسان مهموم بقنص المطلق الذى يرمز إليه بالآلهة ولكنه مع ذلك عاجز عن قنصه، ومن ثم يبقى فى مجال النسبى دون مجاوزته. وفى هذا البقاء يمتنع سقوطه فى وهم قنص المطلق. إلا أن هذه البداية للعلمانية لم تكن من فراغ إذ سبقتها تمهيدات تمثلت فى الطبيعيين الأوائل الذين ارتأوا عدم مجاوزة الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، الذى موضوعه المطلق، فارتأى طاليس أول الفلاسفة الطبيعيين أن الماء هو أصل الأشياء، ولهذا قال إن الأرض تطفو فوق الماء، وأن جميع الأشياء تتغذى من الرطوبة. وقد يقال عن الماء إنه المطلق إلا أنه لن يكون كذلك بحكم أنه مطابق للنسبى لأنه متغير، إذ هو يتحول إلى بخار بفعل النار والبخار يتحول إلى تراب. وارتأى أنكسيمندريس أن أصل الأشياء مادة لا متناهية، أى لا معينة لأنها مزيج من الأضداد كالحار والبارد واليابس والرطب. وبعده ارتأى أنكسيمانس أن الهواء هو الأصل لأنه من الماء وأنه أسرع حركة وأوسع انتشارًا. أما رابعهم وهو هرقليطس فقد ارتأى أن الأصل هو النار لأنها أكثر الأشياء تغيرًا، والتغير صفة جوهرية فى الأشياء.
واللافت للانتباه ها هنا أن هؤلاء الفلاسفة الطبيعيين وهم يفكرون فى المادة فإنهم يتصورونها على أنها حية.
نقلا عن المصرى اليوم