بقلم - روماني صبري
دائما ما يرتبط المخرج، لاسيما المبدع بأسماء أفلامه، كما الممثل، وأكد عبقرية محمد خان، فيلمه "الحريف"، احد أهم الأفلام الواقعية، انه حريف إخراج الأفلام السينمائية الواقعية الوجودية، وكثيرون يتذكرون ويكررون مشاهدة أفلامه، التي كانت تترجم حياتنا الصاخبة وتجاربنا بكل رقة، في فيلمه "خرج ولم يعد"، جعل أرواحنا تستكشف هدوء وجمال الريف، والمرأة الأصيلة البسيطة الجدعة هناك، في هذا الفيلم، يسلم بطله بمحض إرادته نفسه للطبيعة، هربا من زحام المدينة التي يشبه ضجيجها المرض، ولسوف نردد دائما ما ألفنا من قوله:" رحل الرجل منذ سنوات، ولكن أعماله باقية، كون أعمال المبدعين لا تموت ، وهذا ما أكده التاريخ ، ترك خان خلفه أعمالا سينمائية تحمل لمساته السحرية وفنه وإبداعه، كذا تضج أفلامه بالتفاصيل والجماليات السينمائية.
عادة ما يختار المخرجون المبتدئون سيناريو بسيط جميع مشاهده داخلية ليبتعدوا عن صعوبة التصوير في الشارع أما خان فقرر أن يكون أول أفلامه الطويلة وهو فيلم "ضربة شمس" في الشارع !، وربا كان يعلم أن التصوير في الشارع المصري يعد انتحار ، لأن كثيرون هنا بمجرد أن يبصرون الكاميرا، يشرعون ليقفون أمامها لتلتقطهم، علاوة على أنهم لا يسترقون لصوت المخرج الذي يكاد يختنق من غيظه فينطلق صوته كرصاصات من الميكرفون ناصحا إياهم بالابتعاد وعدم النظر إلى الكاميرا ، لكن خان كان أقوى من استهتار هؤلاء.
كان الحلم الأكبر لخان الطفل ذو الجذور الباكستانية ، أن يكون مهندسا معماريا، وحبه للسينما جعله يقتل حلم طفولته ، وفي الخمسينيات سافر لدراسة الإخراج في انجلترا ، بعدما تأكد أن مكانه الطبيعي في الحياة هو الوقوف خلف الكاميرا …خان لم يقم بدراسة الإخراج بالشكل التقليدي المتعارف عليه والذي يستخدمه مخرجين اليوم من الشباب ، حيث تتبلور كل أعمالهم في محاكاة وتقليد الفيلم الأمريكي، بل قام بالتركيز على الأفلام الأوروبية الواقعية وأهم روادها الأوائل، حصيلة الأفلام التي كان يشاهدها خان في السنة كانت كثيرة جدا، وهذا لا يعني أن كثرة مشاهدة الأفلام يجعل الشاب الذي أنهى دراسة الإخراج حديثا يقوم بتقليد طريقة تصويرها واستخدام اللقطات ذاتها والأحجام في أفلامه فيما بعد، حتى لو كان السيناريو لا يحتاجها.
يقول المخرج الروسي اندريه تاركوفسكي : إن الفيلم لا ينشأ من الفراغ بل إن الفيلم ينشأ بين العديد من أعمال المخرجين الآخرين، أنا أعشق برجمان واكيرا كوروساوا وميزوغوشي وانطونيوني وبونويل وشاهدت جميع أعمالهم أكثر من مئة مرة لأنني ارتاح مع أفلام هؤلاء العظماء وقمت بتحليل أفلامهم عدة مرات لذا إذا سألتموني ما هو التأثير الذي أخذه تاركوفسكي من هؤلاء العظماء الذين يعشقهم ؟ سأقول : لا شيء … ليست لدي أي رغبة بتقليد الآخرين لأنه من المستحيل أن أفعل ذلك وعندما أصور فيلما جديدا أقوم بمشاهدة أعمالهم حتي لا أصنع مشهد مشابه لأعمالهم ، أشاهد أعمالهم حتي أصنع فنا وفيلما مختلفا جديدا لا لا لا لم أرغب بتقليد أي من هؤلاء العظماء "، وربما هذا ما فعله خان كي يكون الحريف، ولا يمكن إنكار تأثره ببعض السينمائيين، فارس الحريف بطل فيلمه الثاني كان يراوغ بالكرة الشراب ويجعل منافسيه يركلون الأرض غيظا من موهبته، أما خان فكان حريفا من نوع آخر يراوغ ويلتقط بعينه أولا ثم يسجل أهدافه بالكاميرا .
تأثر خان بالمخرج المصري الكبير صلاح أبو سيف ، وعمل في شركة فيلمنتاج التي كانت تخضع لإدارة أبو سيف، وبسبب صعوبة الإنتاج قد ضاق الحيل بخان وأصابه الاكتئاب ، لذلك قرر أن يفتح مطعم فول وطعمية في لندن ! ، وقام بعرض فكرة المشروع علي أبو سيف الذي رحب بالفكرة وقرر أن يدخل كشريك معه في المشروع قائلا لخان : مفيش مطاعم فول وطعمية في لندن دي فكرة هتخلينا مليونيرات، وبالفعل قام بمنحه شيك بالمبلغ ، وكان المشروع ليتحقق على ارض الواقع لولا تدخل الممثلة نادية شكري التي قالت لخان : حرام عليك تدرس الإخراج وتفتح مطعم فول وطعمية عشان تبقى مليونير تعالى مصر سهل تعمل أفلام هناك ، وبعد اقتناعه بكلام نادية شكري قام برد الشيك إلى المخرج صلاح أبو سيف ، وصنع أول أفلامه ضربة شمس الذي قام نور الشريف بإنتاجه وحقق نجاحا جماهيريا باهرآ وأعجب وأدهش النقاد.
بدأت أفلام المقاولات في الثمانينات، كما يسمونها، وكانت تنتج من قبل التجار، وتنسخ علي شرائط الفيديو، ويتم توزيعها في دول الخليج من أجل جني الأرباح بسهولة، وهذه الأفلام لا أسخف منها بل احترم الكثير منها، لكنها أشعرت رواد الواقعية الشباب في تلك الفترة بالخطر ، فقرر كل من داود عبد السيد ، ومحمد خان ، وعاطف الطيب ، ومدير التصوير سعيد شيمي ، وخيري بشارة وآخرون إنشاء شركة إنتاج عرفت بالجماعة السينمائية، وكان الشاغل الأكبر للجماعة هو إنتاج أفلام هادفة واقعية تحمل هموم ومشاكل المواطن المصري ، وأنتجت الجماعة فيلم الحريف .
قام خان بإخراج العديد من الأفلام المصرية الهامة التي أصبحت من علامات السينما المصرية، منها : أحلام هند وكامليا، فارس المدينة، موعد على العشاء، شاركت أفلامه في مهرجانات عالمية وحصد الكثير من الجوائز ، وأصبح اسم محمد خان عالميا ، بمجرد رؤية عبارة -فيلم لمحمد خان- في بداية الفيلم، يتأكد بالنسبة لكثيرين أن الفيلم سيكون جيدا واستثنائي ، خان احد أهم رواد السينما الواقعية الوجودية الجديدة، التي انطلقت في ثمانينيات القرن الماضي، والتي لا تعتمد علي البطل الواحد ، فالشوارع والحارات والمواصلات والشرفات والباعة والموظفين وصخب الشوارع المزدحمة من أبطال أفلامه.
أفلامه لا تشعرك بغربة كأفلام يوسف شاهين، حيث اعتمد البساطة، فلامست أفلامه المصريين، خان رجل أدمن السينما، رؤيته للكاميرا كانت تسعده سواء كانت ثابتة أو تتحرك، التتابع في أفلامه تم باحترافية، كذلك طريقه استخدامه للقطات الثابتة، أيضا اهتم خان بالصورة واللقطات الواسعة لتسجيل الواقع كصديق عمره "خيري بشارة"، الفيلم يحكمه المخرج وليس البطل، وهذه ما رآه خان، أما اليوم فنرى مشاهد بسيطة داخلية غير هامة، ورغم ذلك يقوم المخرج بالتقاط عدة لقطات لنجم العمل بناء علي طلب من المنتج من عدة زوايا ليرينا سحر وجمال قفاه وأذنه وأسنانه والشعيرات الدموية التي تسكن أنفه وكم هي رائعة وجميلة!.
حمل خان مشاكل مجتمعه المصري علي عاتقه ولم يحب سينما المقاولات رغم العروض، عدم منحه الجنسية المصرية طوال هذه السنوات يعد جريمة ، ما جعله يشعر بالحزن وعدم التقدير لكنه لم يبوح بذلك وظل يعمل فقط، فدائما ما يخفى المبدع أحزانه داخله ويبتسم ، حتى صدر قرارا رئاسيا من الرئيس السابق / عدلي منصور بمنحه الجنسية المصرية عام 2014 الأمر الذي جعل الأخير يشعر بالتقدير والسعادة قائلا : حصولي على الجنسية المصرية كان حلم وقد تحقق .