نوال السعداوي
فتاة طفلة عمرها 14 سنة، زوّجها أبوها، رغم إرادتها، لرجل يكبرها بأربعين عامًا، لكن الزواج لم ينجح بالطبع، فكيف لطفلة فتاة صغيرة أن تُنتهك جسديًا ونفسيًا، من قِبَل رجل عجوز من عمر جدها وضد إرادتها؟! الفتاة الطفلة قاومت، وفشلت، أو حاولت الانتحار، وفشلت أيضًا، وبقيت معه على مضض وكره، ثم حاولت الهرب، فذهب إلى المأذون وطلقها بإرادته المنفردة، أمسكها وأوسعها ضربًا وركلًا، ثم أعادها إلى أبيها يتهمها بسوء السلوك، الحجة الجاهزة السهلة لأى رجل معدوم الضمير يطلق زوجته، العيب فيه، أو العجز، أو الرغبة فى الانتقام منها لعدم قبولها الذل والهوان. المهم أن الأب معدوم الضمير، منذ البداية، أمسك ابنته الصغيرة الضعيفة العاجزة عن المقاومة، كبّل يديها الصغيرتين بحبل متين، يساعده رجال الأسرة، أعمامها وأشقاؤها، لفوا حول فمها وأنفها شرائط لاصقة «بلاستر»، وألقوا بها حية فى النيل، وتم العثور على جثتها وانتشالها من الماء، وقرر الطبيب الشرعى أن سبب الوفاة هو الخنق، وليس الغرق.
عشرات، أو ربما مئات، من هذه القصص المخزية تحدث كل يوم، نقرؤها فى الجرائد والمجلات، ثم نقلب الصفحة الملطخة بدم الضحايا من الفتيات والأطفال الإناث، لنقرأ الأخبار الأهم من وجهة نظرنا. وما هى تلك الأخبار الأهم من وجهة نظرنا؟؟ كم مليونًا قتل «كورونا»، فضائح المشاهير، تنافس على كراسى تحصد السلطة والمال والنفوذ، أى انتخابات تغير من الوجوه، ولا تغير الثقافة؟! أعمدة صحفية تدعم روح التعصب الدينى، صور مرشحات ومرشحين يقدمون الوعود بالتغيير إلى العدالة الاجتماعية، والحريات العامة والخاصة، الوعود المُراقة بالحبر على ورق الصحف، المُذاعة بالأبواق على الجماهير، الوعود بالعدالة الاجتماعية تختفى مع انتهاء الانتخابات والصعود إلى العرش، هل تألم أحد المرشحين المتحمسين للعدالة الاجتماعية، لخبر مقتل هذه الفتاة الطفلة؟.
القصة نفسها تتكرر فى كل زمان ومكان، بالطريقة نفسها، وكيف تتغير، والأعمدة الأسمنتية الراسخة لا تُمس من قريب أو من بعيد؟! مازالت القيم العنصرية والقوانين الأبوية الطبقية هى التى تحكم العلاقات داخل الدولة والعائلة. الجميع (إلا القليل النادر) قلبوا الصفحة، ليقرأوا الأخبار الأهم. الجميع (إلا القليل النادر) قلبوا الصفحة، ونسوا الفتاة الطفلة البريئة المقتولة، تحت اسم الدفاع عن شرف العائلة. كلمة الشرف ينطقها الأب والأعمام والأشقاء، بصوت جهورى غليظ، مُنفِّر. يتكتل الجميع فى قوة متينة من أجل شرف الرجال وكرامتهم ضد الفتاة الطفلة، التى ليس لها شرف ولا كرامة، ليس لها أحد فى هذه الغابة، حتى أمها المسكينة ترتعد لكلمة الشرف، تساعد الرجال فى قتل ابنتها، أو على الأقل تسكت وتتستر على الجريمة، وكم من بنات صغيرات تم قتلهن فى بلادنا من أجل الشرف، دون عقاب القتَلة، أو بعقاب مخفف تعاطفًا مع الرجال المدافعين عن شرفهم.
لقد تابعنا قضية المواطن المصرى، «ياسر»، من إحدى محافظتى سيناء، والذى هاجر إلى الولايات المتحدة، تزوج أمريكية، حصل على الجنسية الأمريكية، وعمل سائقًا، وفى عام 2008 استدرج ابنتيه «أمينة» و«سارة»، واعتدى عليهما جنسيًا، ثم أطلق عليهما الرصاص، حيث ثأر لشرفه وشرف العائلة، عندما علم أن ابنتيه تواعدان شابين أمريكيين، ومن غير المسلمين. وظل هاربًا لمدة 12 سنة، منذ عام 2008 حتى قُبض عليه فى 26 أغسطس 2020، وهو هادئ النفس، فخور، بأنه ارتكب جريمة الشرف العربية الذكورية، على أرض أمريكية، لا تعرف جرائم الشرف، ويواجه الآن أبشع الاتهامات، وأغلظ وأشد العقوبات.
نعم، مازال مفهوم الشرف فى بلادنا يخص فقط سلوك البنات الصغيرات، أكثر من سلوك فطاحل الرجال، فى بورصة السياسة والمال والإعلام. مفهوم فاقد للشرف.
بعض الغارقين لآذانهم فى حلبة التنافس على السلطة والمال والنفوذ قد يسخرون من اهتمامى بفتاة صغيرة، لا وزن لها فى غابة السياسة والمال وتوازن القوى، ومَنْ يحترم حق إنسانة أو إنسان مصرى ليس له قوة؟! وهل احترموا ملايين الشعب المصرى إلا بعد ثورة جماعية مليونية أسقطت رؤوس النظام، وانتزعت حقها بقوة التنظيم والاتحاد؟! رفعت الثورة شعار الكرامة والحرية والعدالة، بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو الطبقة.
بعد تسع سنوات، أتساءل: لماذا قامت الثورة المصرية؟ ألم تقم من أجل العدالة والحرية والكرامة؟ ألم تقم من أجل هذه الفتاة وغيرها من الملايين المقهورات والمقهورين من الشعب الفقير؟ هل انطفأت روح الثورة الإنسانية العظيمة، وعادت ريما لعادتها القديمة؟ عدنا إلى حلبة الصراع بالطرق القديمة، فقدنا الإنسانية الثورية التى ترعى الضعفاء والأغلبية المظلومة، عدنا ماكينات سياسية، لها عضلات بارزة، وأبواق إعلامية زاعقة، وأموال غزيرة من أرباح السوق الحرة، أو المناصب العليا منذ عقود. كيف تتحقق الكرامة والعدالة والحرية للشعب كله، ومنه الفتيات الصغيرات اللائى يذهبن ضحايا جشع ذكور العائلة، وضحايا جرائم الشرف التى هى ضد الشرف؟! لم نرَ أبدًا ضحايا من النخبة، الطبقة المميزة فى كل العهود، من السياسيين والأحزاب الشكلية ورجال الأعمال ونساء الإعلام والماكياج؟ بعضهم ترعرعوا فى حضن النظم السابقة الفاسدة، وصمتوا على فسادها السنين والسنين، هذه النخبة تفسد كل شىء، حتى شباب وشابات الثورة الشعبية ذات المبادئ الإنسانية الرفيعة، راحت تفسدهم، وتبذر الخلافات بينهم لتقسمهم، «فَرِّق تَسُدْ»، اختارت منهم ما يتواءم معها، ويتكيف مع مبادئها المطاطة المراوغة. أطالب كل الكيانات المهتمة بإنسانية المرأة، حكومية وأهلية، بأن يتم تجريم ما يسمى «جريمة شرف»، لتكون أول خطوة عملية تنصف الفتيات والنساء فى المدن والقرى، أمام أفعال همجية إجرامية متوحشة، تجد فى الثقافة السائدة دعمًا وتأييدًا.
نقلا عن المصرى اليوم