بقلم: القس نصرالله زكريا
لقد شهدت مصر منذ ما يقرب العام والنصف ثورة 25 يناير التي قادها شباب الفيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعي، وانضم لها قطاعات عريضة من الشعب المصري، حيث كان الوضع السياسي تدنى إلى أدنى مراحله خاصة بعد انتخابات مجلسي الشعب والشورى 2010، والتي حصد فيها الحزب الحاكم على أغلبية كاسحة وتهميش واضح ومتعمد للمعارضة لتمرير مشروع التوريث، بالإضافة لدور الأمن في زيادة حالة الاحتقان الطائفي والتي وصلت لذروتها في أحداث تفجيرات كنيسة القديسين بالإسكندرية أثناء احتفالات الكنيسة برأس السنة الميلادية عام 2010.
هذا بالإضافة لزيادة معدلات الفقر وسوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية وانعكاساتها الخطيرة على المجتمع، التي ظهرت في تعدد الإضرابات والاعتصامات العمالية والطلابية، ولا يفوتنا سطوة رجال الشرطة واختزال دور المؤسسة الشرطية في خدمة النظام والحفاظ على هيبته أمام الشعب بالمخالفة لدورها الأساسي وهو خدمة الشعب وحفظ الأمن، ولا يجب أن ننسى حادثة قتل الشاب السكندري خالد سعيد على يد رجال الشرطة، ناهيك عن انطلاق شرارة الثورات العربية من تونس وهروب الرئيس التونسي "زين العابدين بن علي" أمام هدير الثوار، وما لعبته مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام في إذكاء الروح الثورية لدى قطاعات عديدة من الشباب المصري الثائر على تردي الأوضاع التي يعيشها غالبية الشعب؟
خاصة في ظل بدايات لحركات ثورية رافضة لنظام الحكم متمثلة في حركة "كفاية، 6 أبريل، الجمعية الوطنية للتغيير..الخ، وكان يوم 25 يناير 2011م، بما يحمله من دلالات باعتباره يوم احتفال الشرطة بعيدها، كان ذلك اليوم هو اليوم المحدد لاندلاع المظاهرات الشبابية في عدة محافظات وقد حدث ذلك فعلاً وانضم الشعب المصري لأولئك الشباب فتحولت المظاهرات إلى ثورة عارمة تنادي بتغيير النظام ومن ثم إسقاط النظام وقد نجحت الثورة في إسقاط رأس النظام متمثلاً وتخلي رئيس الجمهورية عن رئاسته التي دامت لنحو ثلاثين عاماً، وقد تغنى قادة العالم بثورة الشعب المصري التي أذهلت العالم، وجعلت الرئيس مبارك يتخلى عن منصبه أمام ضغط شعبي لم يتجاوز الثمانية عشر يوماً، ومن خلال ثورة سلمية حقاً، فهل نجحت الثورة فعلاً؟ إن التعريف العلمي للثورة هو تغيير النظام، أياً كان نوع هذا التغيير، للأسوأ أو الأفضل، وإن كان التغيير المرجو والذي تأمل فيه الشعوب هو دائماً التغيير للأفضل.
وها نحن وبعد مرور أكثر من ثمانية عشر شهراً من تخلي الرئيس عن منصبه، ومروراً بانتخابات مجلسي الشعب والشورى 2011، ووصولاً لانتخابات الرئاسة 2012، تُرى هل نجحت الثورة فيما قامت لأجله؟ وما رفعته من شعارات مثل: "كرامة .. حرية .. عدالة اجتماعية" أو "عيش .. حرية .. كرامة إنسانية"؟ ما الذي تغير بعد عام ونصف العام منذ انطلاق الثورة المصرية؟. وبموضوعية شديدة أحاول هنا رصد ما للثورة وما عليها، بعض ما حققته الثورة وما أخفقت فيه، كمحاولة للإجابة على السؤال هل نجحت الثورة فيما قامت لأجله؟ أهم ما نجحت فيه الثورة هو كسر حاجز الخوف الذي شيده النظام الحاكم عبر عقود من ديكتاتورية الحاكم وجهازه الأمني والبوليسي، ذلك الحاجز أصبح عائقاً من الصعب تخطيه أو تجاوزه.
خلق حالة من السيولة السياسية في المجتمع، بعد أن كانت مجالاً للنخب والمثقفين، أصبح الشعب بكل فئاته، من شيوخ وشباب، رجال ونساء –بل أقول والأطفال أيضاً- أصبح الجميع يتحدث في الشأن السياسي، والجميع يحاول فهم حقوقه السياسية ويدرك أن صوته أصبح ذو قيمة تحدد مستقبل البلاد، هذا الدور وضح في المناقشات اليومية العادية بين أفراد الشعب، مما فتح الباب أمام الكثير من القوى المجتمعية للمشاركة السياسية وتكوين أحزاباً خاصة بها،.
وقد ظهرت ذروة هذا النشاط السياسي الشعبي في المشاركة الجماهيرية غير المسبوقة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية. إغلاق ملف التوريث نهائياً، وتحديد مدة الرئاسة بحيث لا تتعدى فترتين مدة كل منهما أربع سنوات، تحجيم قانون الطوارئ، إعادة هيبة القضاء السياسية وقد ظهر ذلك واضحاً تمكين القضاء المصري من الرقابة الكاملة على العملية الانتخابية برمتها، فتح ملفات الفساد السياسي والمالي والإداري وإحالة بعض رموز النظام السابق للقضاء. أما إخفاقات الثورة فتتمثل في كونها ثورة شعب بلا قائد، وإذ يعتبر البعض أن هذا ميزة تحسب للثورة لا عيب عليها، فالواقع أن الشعب مفهوم عام لا يمكن له أن يقود، بل يحتاج لرؤوسٍ وعقولٍ مدبرة بإمكانيات عقلية وفكرية خارقة توجهه وتسيره على الطريق الصحيح.
لقد ابتهج الشعب وتهلل لحظة سماعة عن تخلي الرئيس عن مهامه، ونسى في غمرة انتصاره بهذه اللحظة أن ثورته قد بدأت على التو واللحظة، فترك الميدان وأسلم ثورته لمن لم يقم بها، لم نر قائداً استطاع أن يجمع من حوله شتات القيادات الثورية في كيان واحد، حتى وبعد مرور عدة شهور وعدة انتكاسات تعرضت لها الثورة لم نجد قائداً أو فصيلاً استطاع أن يحشد الكيانات الثورية في كيان واحد أو تحت رؤية واحدة وقيادة واحدة، وقد ظهرت قمة هذا التشرذم في انتخابات الرئاسة، حيث لم تستطع القوى الثورية أن تتفق على مرشح واحد، فجاءت الانتخابات بإعادة لذات النظام الذي قامت من أجله الثورة. قامت الثورة لتغيير النظام الحاكم، والحزب الحاكم وهلل الجميع عند صدور الحكم بحلَّ الحزب الوطني.
وتنفست الأغلبية بدايات للممارسة الحزبية الحرة لأول مرة منذ عقود، لكن الواقع جاء بأحزاب تقوم على أسس ومرجعيات دينية وهو ما كان مرفوضاً سابقاً، وبدا واضحاً الاستقطاب الديني والطائفي فيما يسمى بالاستفتاء، وعندما واجهتنا الانتخابات البرلمانية كانت النتيجة أغلبية الحزب الواحد الذي حلَّ محل الحزب المنحل، وما كان يعاب عليه المنحل أصبح أسلوباً للحزب الجديد من حيث الاستحواذ والاستعلاء وإقصاء الآخر. وقد تصاعدت وتيرة العبثية السياسية والثورية فيما شهدته الانتخابات الرئاسية، فقد بدا أننا أمام انتخابات مختلفة، فبرغم وجود فرسي الرهان المعتادين متمثلين في طرفي النظام القديم، النظام الحاكم الذي أسقطت الثورة رأسه فقط، والجماعة التي كانت محظورة فجاءت من خلال حزبها السياسي، إلا أن طرفاً ثالثاً أتت به الثورة.
وهو عدد من المرشحين المحسوبين على الثورة، لكن ما عاب هذا الفريق افتقاده للرؤية والقيادة الواحدة، فتفتت الأصوات الثورية وعاد المشهد بعد الجولة الأولى من الانتخابات إلى ما كانت عليه قبل الثورة، وأصبحت الإعادة بين طرفي الصراع في النظام الذي قامت من أجله الثورة، وأصبح الناخب أمام معضلة حقيقية فإما أن يختار ما ثار لإسقاطه، أو الدخول لمستقبل غامض لا يعلمه إلا الله وحده، فهل تغير النظام؟ وهل استطاعت الثورة أن تُغير النظام حقاً؟ هل نجحت الثورة فعلاً؟ أم أننا مازلنا في أولى مراحل الثورة؟ أم أن الأيام القادمة ستشهد مزيداً من تعقيدات المشهد السياسي وثورات وفورات تطيح بالمقدرات الباقية لهذه البلاد. وهل يجب أن تبقى الثورة فقط سياسية أم أننا نحتاج لثورة سياسية اجتماعية ثقافية فكرية إنسانية، ثورة على المفاهيم والقيم البالية، ثورة تأخذ من معطيات العصر والحضارة طريقاً تعبر بنا من خلاله إلى مستقبل أفضل يليق بهذا الشعب المتجذر والمتأصل في الحضارة الإنسانية.