مينا بديع عبدالملك
منذ أكثر من 5000 سنة، وقبل أن تظهر أى مدنية أخرى على وجه الأرض، استطاع المصريون أن يضعوا مقياساً للزمن من أدق المقاييس، وضعه الرجل العظيم «توت» الذى يُعتقد أنه ينتمى إلى مدينة الأشمونيين والذى ألّهه المصريون ودعوه «رب العلم والقلم»، ولهذا قال المؤرخ الإغريقى هيرودوت (484 – 406 ق.م) المُلقب بأبى التاريخ: (وأما ما يتعلق بأمور البشر فالجميع على اتفاق فيه وهو أن المصريين أول من ابتدع حساب السنة وقسموها إلى اثنى عشر قسماً بحسب ما كان لهم من علم بالنجوم).
وقد وضع «توت» أساس تقويمه عندما لاحظ أن «نجم الشعرى اليمانية» أو «سيريوس» أكثر نجوم القطب الأكبر إنارة، تشرق وتغرب مقارنة بالشمس فى ابتداء زمان الفيضان النيلى الذى عليه تتوقف حياة المصريين وثروتهم. فجعل هذا الزمان بداية السنة المصرية. واعترافاً من المصريين بفضل هذا الرجل العظيم، فقد أطلقوا على الشهر الأول من السنة المصرية اسم «توت» بل أطلقوا على السنة المصرية نفسها اسم «السنة التوتية».
وكانت مدينة الأشمونيين تحتفل برأس السنة المصرية طوال شهر توت تكريماً له، وعندما دخلت المسيحية مصر على يد القديس مرقس عام 64 م، حافظ المصريون جميعهم، وثنيون ومسيحيون على الاحتفال بهذا العيد باعتباره أساساً، عيداً قومياً لا دينياً، وكان الجميع يتبادلون فيه الزيارات، بالإضافة إلى أنهم كانوا يحرصون على الذهاب إلى المعابد أو الكنائس لتقديم الشكر على وصولهم لبدء العام الجديد سالمين. وبعد دخول ملوك العرب بلادنا المصرية وبعد أن رأوا عظمة هذا العيد شاركوا المصريين فى الاحتفال به لأنه عيد وطنى جليل القدر. فقد تجلت عبقرية المصريين القدماء فى القرن الثالث الميلادى عندما أقاموا نصباً خالداً لذكرى شهداء المسيحية الذين انتصروا بشجاعة وإقدام على الوثنية بأن جعلوا تقويمهم- المعروف بالتقويم القبطى أو تقويم الشهداء- يبدأ بعام 284م ذكرى اعتلاء الامبراطور «دقلديانوس» للعرش.
فى سبتمبر 1884م تكونت فى أسيوط لجنة لإحياء التاريخ القبطى من عدة شخصيات منهم: تادرس شنودة المنقبادى، سرجيوس قلته، أبادير سمعان مشرقى، صليب ميخائيل، وغيرهم.. وبعد عدة اجتماعات قررت اللجنة الترتيب للاحتفال بعيد رأس السنة المصرية (المعروف بعيد النيروز أى اليوم الجديد) لأول مرة فى العصر الحديث. وفعلاً تم ذلك فى احتفال كبير فى أول توت سنة 1602 للشهداء (أو قبطية) الموافق 11 سبتمبر 1885م، وحضر الحفل أسقف أسيوط وقناصل الدول المختلفة وكبار أعيان وموظفو أسيوط. وكما يقول شيخ الصحفيين المصريين- المرحوم الأستاذ نجيب كيرلس المنقبادى صاحب جريدة «مصر» اليومية- بدأ الحفل بالصلاة والشكر للعزة الإلهية ولخديو مصر وسائر رجال الحكومة، كما ألقيت كلمات عن تاريخ الأقباط وتاريخ المدرسة القبطية بأسيوط، كما تم توزيع اللحوم والدقيق والأغذية المختلفة على فقراء مصر (مسلمين وأقباط) دون تمييز. والجدير بالذكر أن التعاون فى دواوين الحكومة بمصر كان عبر التاريخ القبطى فى ضبط حساباتها لأنه التاريخ الطبيعى المنطبق على أحوال مصر الزراعية. واستمر هذا التاريخ المعمول به فى دوائر الحكومة حتى أواخر عهد الخديو إسماعيل حيث استبدله بالتاريخ الميلادى ابتداءً من أول سنة 1592ش الموافق 11 سبتمبر 1875م وذلك تقرباً للأجانب الذين ازداد وصولهم لمصر وحصولهم على الامتيازات الأجنبية، ولكن استجابة للجنة إحياء التاريخ القبطى عاد على رأس الصحف والمجلات تاريخ التقويم القبطى والذى يعتمد عليه المزارعون ورجال الرى وغيرهم.
أخذت الكنائس والجمعيات القبطية- فى كافة أنحاء مصر- تحتفل بالعيد وكان أشهر تلك الاحتفالات هو احتفال جمعية التوفيق القبطية المركزية بالقاهرة والتى تأسست سنة 1891م والتى كانت احتفالاتها خلال ثورة 1919 مظاهرة وطنية تأكيداً للوحدة الوطنية الحقيقية فى مشاركة الأقباط والمسلمين فى الدفاع عن استقلال وحقوق مصر. وقد استنت الجمعية سُنة حميدة لا تحيد عنها وهى أن يكون الخطيب الرئيسى للحفل من الأخوة المسلمين، ففى سنة 1920 كان خطيب الحفل الزعيم سعد زغلول وخطب بعده الشيخ مصطفى القاياتى، والدكتور محجوب ثابت والأستاذ رياض الجمل. وفى سنة 1942 شرّف الحفل النحاس باشا رئيس الوزراء والبابا يوساب الثانى البطريرك 115، وفى سنة 1952 شرّف الحفل اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيس مجلس قيادة الثورة، وعلى ماهر رئيس الوزراء. ثم فى الاحتفالات التالية حضرها: نجيب الهلالى، عبد المنعم الصاوى، د. رفعت المحجوب، د. صبحى عبد الحكيم، د. نعمات أحمد فؤاد، وغيرهم.
وهكذا يؤكد الاحتفال برأس السنة المصرية دوراً أصيلاً فى إبراز هويتنا بدءاً من العصر الفرعونى ثم مروراً بالعصور الفارسية واليونانية والرومانية والقبطية والعربية حتى العصر الحالى، وأن مصر لم تفقد هويتها رغم ما مر بها من عصور وثقافات.
لذلك جدير بالمصريين الذين صنعوا ثورة 30 يونيو المجيدة أن يؤكدوا على هويتهم الحقيقية بأن يشترك الجميع فى الاحتفال بهذا العيد القومى الذى يوافق الأول من توت 1737ش، أى 11 سبتمبر 2020م، الذى يُعد من أقدم الأعياد فى العالم كله.
نقلا عن المصرى اليوم