نورولينك، هو اسمٌ لامع آخر لشركة تنضم إلى مجموعة أخرى من الأسماء الناجحة التي يهمين عليها عملاق صناعة التكنولوجيا والفضاء الملياردير الأمريكي إيلون ماسك. و نورولينك هي إحدى الشركات الناشئة التي أسسها ماسك مع مجموعة من المستثمرين في عام 2016، وتنتقي أفضل العلماء والأطباء للعمل فيها. تهتم الشركة بعلوم الأعصاب على وجه خاص وتركز جهودها على بناء الواجهات العصبية الآلية التي تتيح لأجهزة الكمبيوتر التواصل والتفاعل مع الدماغ.
وفي يوم الجمعة الماضي، الموافق للثامن والعشرين من شهر أغسطس المنصرم، شهد العالم عرضًا واعدًا استعرض فيه إيلون ماسك أبرز وأقوى ما توصلت إليه شركته نورولينك في عالم الأعصاب والخلايا الدماغية، إذ أبهر ماسك الحضور حينما رفع يديه حاملًا بمنتهى الحرص شريحة متناهية الصغر، تخرج منها أسلاك رقيقة، وصفها ماسك بأنها (صغيرة ورقيقة للغاية).
وجاءت الشريحة الصغيرة بحجم العملات النقدية وملحقة بأسلاك بالغة المرونة ومتناهية الدقة يبلغ ثخنها خمسة ميكرونات ما يجعلها أدق 20 مرة من شعر الانسان العادي. صرح ماسك أنه يمكن لهذه الأسلاك أن تترجم إشارات الدماغ من طريق استشعار حركة الأعصاب في الدماغ، ومن ثم تترجم الأسلاك هذه الحركات إلى إشارات لتوصيل البيانات لاسلكيًا إلى أجهزة الكمبيوتر لكي يتمكن العلماء من تحليل البيانات الواردة والسيطرة تدريجيًا على حركة الدماغ.
كل ما يجب أن تعرفه عن شريحة الذكاء الاصطناعي المقدّمة من نورولينك - الدليل الشامل للطفرة التكنولوجية الجديدة في عالم المخ والأعصاب
ظهر ماسك، في ذلك العرض التقديمي الحي مع مجموعة خنازير قدمهم إلى الجمهور على أنهم أبطال تجربته الخاصة بالشريحة الجديدة.
وعلى غرار التجارب العلمية، صرح ماسك أن كل خنزير من الخنازير الثلاثة يمثل مجموعة تُستخدم لتقييم التجربة. وعن سبب استخدام الخنازير دون غيرها من الحيوانات كالفئران في هذه التجربة الرائدة، سوّغ ماسك ذلك بالتشابه الكبير بين دماغ الخنزير ودماغ الإنسان.
ثلاثة خنازير
استخدم ماسك في عرضه التقديمي الأخير جويس ودوروثي وجيرترود. لم تُزرع الشريحة في دماغ جويس، بينما خضعت دوروثي لعملية زراعة الشريحة ثم نزعها من دماغها، وذلك بهدف إثبات نجاح الأطباء في إزالة الشريحة في حال رفض المتطوع إجراء التجربة في المستقبل. أما الخنزير الأخير زرع الأطباء الشريحة داخل دماغه منذ شهرين تقريبًا.
بهذا المزيج المتناسق بين التكنولوجيا ومستقبل الإنسان، ضمن ماسك انبهار الحاضرين بالعرض، ثم أضاف إلى العرض بعض السحر، حينما بدأ فريق عمله بإذاعة بث مباشر للإشارات العصبية التي تنقلها شريحة نورولينك الموجودة داخل دماغ جيرترود. وبالفعل استمتع الحضور بحركات الخنزير وهو يشم الطعام، في حين أضاءت الشاشة فجأة، واستمع الجميع بإصغاء إلى أصوات الإشارات التي تبثها الشريحة من داخل دماغ الخنزير.
وفيما لا يزال استخدام الخنازير في التجارب العملية يعد أمرًا غير قانوني ويعرض الشركات للمساءلة القانونية، صرح ماسك أن شركته قد حصلت حصريًا على موافقة تامة من هيئة الغذاء والدواء الأمريكية لاستخدام الخنازير في تجاربها دون أن يعرضها ذلك للمحاكمة، وهو الأمر الذي فضّل ماسك الاحتفال به على المسرح وسط الجمهور، مُعبرًا عن ابتهاجه بهذه الخطوة، مُشيرًا إلى أنها تشكل دعمًا كبيرًا لشركته وأبحاثها في المستقبل.
وعن كيفية زراعة هذه الشريحة ذات الأسلاك الدقيقة داخل الدماغ البشري يقول الدكتور أندرو هايرز: «ليست اليد البشرية دقيقة بما يكفي لاحتراف تركيب مثل هذه الشرائح في الدماغ، إذ يتطلب الأمر المزيد من الحرص لما تنطوي عليه هذه العمليات الجراحية من خطورة كبيرة». وهايرز هو أستاذ مساعد في طب الأعصاب في جامعة كاليفورنيا، وجاء تعليقه هذا بعد أن نشرت شركة نورولينك بحثها الأول الذي اقترحت فيه إمكانية أن يتحكم قرد في جهاز الكمبيوتر الذي يستقبل إشارات من شريحة دماغية مماثلة.
وللتغلب على هذه المشكلة، طورت شركة نورولينك في السابق روبوتًا خاصًا يشبه ماكينة الخياطة لزراعة هذه الشريحة داخل الدماغ. وأوكلت الشركة إلى الروبوت مهمة أن يزرع الأسلاك الخاصة بالشريحة بطريقة تجعلها تتغلغل في الدماغ دون حدوث أيّ أخطاء جانبية في أثناء العملية، وأشادت الشركة بأداء الروبوت الذي أجرى العملية بطريقة احترافية جدًا متجنبًا حدوث أي قطع لشرايين الدماغ. وعملية تثبيت الشريحة هذه بالغة الخطورة في نظر بعض الناس؛ وصفها ماسك بالسريعة السهلة التي لن تخلف أي آثار جانبية سوى ندبة صغيرة تكاد لا تُرى في الدماغ.
وفقًا لطموحات ماسك، يرى الملياردير أن هذه الشرائح هي مستقبل التعايش المتناغم بين الدماغ البشري وأجهزة الكمبيوتر، مع التأكيد على ضرورة مراعاة الضمير الإنساني الواعي عند استخدام مثل هذه التكنولوجيا. وعن تطبيقاتها المستقبلية الواعدة، يُضيف ماسك أن لها الكثير من الاستخدامات الطبية المتنوعة. مثلًا، سوف تسمح للناس بالاحتفاظ بذكرياتهم دون نسيانها. ومن المتوقع لهذه الشريحة أن تُستخدم لعلاج أمراض مثل الشلل النصفي والعمى وألزهايمر وبعض الأمراض العصبية الأخرى، مثل مرض باركنسون. ويمكن استخدام هذه الآلية الجديدة في عمليات زرع الأطراف الاصطناعية واستبدالها، ما يجعل هذه الشريحة تدشن عصرًا جديدًا للإنسان الخارق، وفقًا لتصريحات ماسك.
أما الدكتور جايسون شيبرد، وهو أستاذ مساعد في طب الأعصاب في جامعة يوتا، فقد بدا أن له رأيًا آخر في الشريحة الجديدة الواعدة؛ إذ صرح بأنه يمكن بالفعل استخدام هذه الشريحة الجديدة في علاج بعض الأمراض العصبية كما قال ماسك، إلا إنه لا بد من الاعتراف بأن بعض الأمراض العصبية التي يُصاب بها الإنسان في مراحل متأخرة من العمر قد يستعصي على هذه الشريحة علاجها، وذلك بسبب تداخل العوامل المسببة لهذه الأمراض، مثل بعض الاضطرابات السلوكية والإصابة بفقدان الذاكرة، من هذه الأمراض مثلًا مرض العته أو الخرف.
كان فريق عمل شركة نورولينك بسيطًا ومحترفًا في ذات الوقت، إذ سمح ماسك للفريق أن يقدم خلال العرض تلميحات سريعة جدًا عن المواد المستخدمة في تصميم الشريحة وتنفيذها، وقدموا بيانًا سريعًا حول قدرتها على نقل البيانات وتشفيرها. وبالرغم من ذلك، صرح الدكتور شيبرد أن كل هذه التكنولوجيا المتطورة لم تكن نتاج عمل فردي، إذ تعاون فريق كامل من المهندسين والأطباء والخبراء على تطوير تصميم الشريحة بطريقة لافتة ودقيقة تمكّنها من نقل البيانات لاسلكيًا.
وأكد الدكتور شيبرد أن هذه الشريحة الجديدة لم تكن وليدة اللحظة، وإنما انبثقت عن دراسات وأبحاث سبق أن قدمها علماء الأعصاب والمهندسون الحيويون على مدار سنوات طويلة، الذين سبق لهم أيضا التوصل إلى اختراعات تضاهي ذلك الاختراع تطورًا، مثلًا، تطوير أذرع روبوتية يمكن للدماغ البشري أن يتحكم في توجيهها وتحريكها.
وأضاف الدكتور شيبرد مُعلقًا على العرض التقديمي الأخير الذي قدمته شركة نورولينك أننا إذا شاهدنا هذا العرض، سوف يظهر لنا على وجه التأكيد أن إيلون ماسك ساحر من الدرجة الأولى، إذ يتميز بأسلوبه الخاص الذي يضفي نوعًا من الإبهار على كل ما يفعله، وربما يكون هذا الأسلوب هو السبب الذي يجذب الملايين من المستثمرين للاستثمار في شركاته. إلا إنه وبنظرة أخرى متعمقة في عمله، يمكننا ملاحظة أنه مجرد ناقل لسنوات عديدة من البحث والدراسة أجراها لفيف من العلماء في مجالات مختلفة.
وبالرغم من كل هذه الإثارة، فالطريق ما تزال مليئة بالتحديات أمام شركة نورولينك والشركات الناشئة الأخرى.
أول هذه التحديات هو العمل على تطوير المواد التي يمكن إدخالها بأمان تام وزراعتها داخل الدماغ البشري دون أن تسبب له ضررًا على المدى البعيد، أو تُعرض الشرائح الدماغية للتلف بعد فترة من الزمن.
من بعض التحديات الأخرى، الحاجة إلى صناعة شرائح قادرة على نقل البيانات وتشفيرها بسرعات خيالية ودقة عالية، وأن يجري تطوير برامج يمكنها تحليل وتفسير البيانات الواردة إليها بسهولة. وكذلك يجب التفكير في تصميم طرائق جديدة لزراعة الأسلاك تجعلها تتغلغل أكثر داخل الدماغ لكي يتمكن العلماء من تفسير النشاط العصبي وتحليله بدقة وشمول أكبر.
هذا بالاضافة إلى بعض العقبات التي تخص أمن المتطوعين والمستخدمين وسلامتهم واحترام خصوصيتهم وعدم انتهاكها، وكذلك التغلب على المسؤولية القانونية والأخلاقية التي تنبثق عن استخدام هذه التكنولوجيا المتطورة جدًا. فلا يمكن بالطبع أن يتقبل الناس فكرة زراعة شريحة داخل أدمغتهم تراقب وتحلل كل حركة عصبية، وأن يتطور الأمر أكثر حتى التحكم في حركاتهم باستخدام أحد التطبيقات الهاتفية. فالأمر ينطوي على مخاطرة كبرى.
علق الدكتور شيبرد بأسف: «إن معظم هذه الأفكار الواعدة تُقتل في مهدها بين مرحلة التطوير ومرحلة التنفيذ. هذه الفكرة مع أنها استثنائية، نحتاج الكثير من الوقت لتطويرها وتنفيذها على أكمل وجه».
ومن المثير للدهشة، أن بعض العلماء الذين سبق لهم العمل لدى الشركة، أكدوا وجهة النظر التي طرحها الدكتور شيبرد، إذ ادعى هؤلاء أن الشركة تضع مخططات وتصورات عملاقة لا تتناسب مع الوقت المطروح لتنفيذ مشاريعها. وأضافوا أن الشركة تتخذ استراتيجية التحرك بسرعة وتحطيم التقاليد والمعايير من أجل الوصول إلى أهداف علمية عملاقة، الأمر الذي قد لا يكون مناسبًا مع بعض الأبحاث العلمية في بعض الأحيان.