عاطف بشاي
انقلبت الصحارى جنات واسعة.. جارية الأنهار.. دانية القطوف.. شهية الأثمار.. وزالت الفوارق بين الناس.. فإذا كل فرد غنى ثرى ولم يعد هناك ظالم ولا مظلوم ولا سليم ولا سقيم - فالجميع فى صحة ورفاهية وسلامة وعافية.. والمستوى الاجتماعى والعقلى والروحى مرتفع للجميع.. الكل سادة.. والكل أحرار.. إنه العالم المثالى الذى ينشده الفلاسفة والحكماء..».
العبارات السابقة عن هذا الحلم الخيالى فى «يوتوبيا» فاضلة تنشد السعادة للبشرية.. جاءت فى سياق مقال قديم بديع لأستاذنا الرائد «توفيق الحكيم» فى كتابه «تأملات فى الأدب والفن». والمقال يأتى على شكل حوار اعتاده كثيرًا فى مقالاته مع «عصاه» أو «حماره» أو مع نفسه الحائرة التى تطمح إلى تحقيق يقين مراوغ يؤرقه الوصول إليه، ومن ثم فإن سعيه إلى إثارة الجدل مع الآخر.
يرصد «الحكيم» ردود أفعال الناس الذين شملهم العجب والذهول لهذه المعجزة التى حدثت فى الأرض.. وبدأوا ينظرون إلى حياتهم الجديدة وكأنهم لا يصدقون.. كل شىء أصبح فى متناول أيديهم.. الرزق موفور والصحة دائمة.. والحرية قائمة.. ما من طلب إذًا يسعون إليه، وما من أمر يشكون منه.. إنها السعادة الوافرة المطلقة.. لكن الحيرة والقلق ما لبثا أن تسللا إليهم.. واستولت عليهم فكرة مروعة.. لقد انتزعت منهم «المعجزة» الغد.. لقد افتقدوا الأمل.. والكفاح لتحقيقه.. افتقدوا العمل.. فاعترضوا وثاروا.. لقد عثروا أخيرًا - منذ أن ابتلوا بالسعادة - على شىء يشكون منه.. لقد عرفوا حلاوة الشكوى مرة أخرى.. إنهم سجناء سعادتهم.. لقد توقف كل شىء.. الأمل.. التقدم.. الحلم.. الطموح.. إنه الموت.. هل أعطتهم السماء «الموت» بدلًا من السعادة.. وفى تضرعهم للسماء طالبين الرحمة برفع هذه السعادة عنهم.. دار الحوار بينهم وبين السماء: - أتريدون الفقر والمرض والعبودية؟!
صاحوا: نعم.. نكدح من أجل الغنى.. نقاوم من أجل الصحة.. ونكافح من أجل الحرية.
- والسعادة؟! هى شىء يأتينا من داخل أنفسنا.. لا من الخارج. لعلكم الآن قد فهمتم حكة الخالق..
ويتفق الفيلسوف «برتراند راسل» مع «توفيق الحكيم» فى أن العمل والكدح هما السعادة'>مفتاح السعادة.. ويؤكد أنه إذا كان الكثير من الأعمال منهكة وقاسية بل وكئيبة.. فهى بالنسبة لمعظم البشر أقل إيلامًا من البطالة.. إن معظم الأغنياء العاطلين يعانون من الملل القاتل.. وقد يجدون فى بعض الأوقات تفريجًا لذلك باصطياد الحيوانات الضخمة فى «إفريقيا» أو بالطيران حول العالم ولكن مثل هذه المتع تعد محدودة خاصة بعد انقضاء الشباب.. لذلك فإن الأغنياء الأكثر ذكاءً يعملون بجدية كما لو كانوا فقراء فى احتياج الى المال.. بينما تشغل ثريات النساء أنفسهن بعدد لا حصر له من الترهات التى يعتقدن اعتقادًا جازمًا فى أهميتها التى يهتز لها العالم. وبمناسبة رأى «راسل» عن الملل الذى يعانى منه الأغنياء العاطلون - وكان يُطلق عليهم قبل ثورة (1952) العاطلون بالوراثة - ويحرمهم من الإحساس بالسعادة.. تذكرت نصا ينحدر إلينا من «بابل» القديمة فحواه أن «السيد» بعد أن استولى عليه الملل.. يهتف بعبده أن يجهز مركبته لينطلق خارج القصر.. ثم يتراجع فجأة عن طلبه ويطلب منه أن يحضر له طعامًا وشرابًا.. لكنه يعزف عن الأكل ويطلب من عبده أن يتجه إلى الصيد.. ثم يزهد فى تلك المتعة خوفًا من حظ الصياد المتقلب حيث يمكن أن تنكسر أسنان كلب الصيد.. ويهرب صقره رافضًا القنص.. ويتوق «السيد» إلى أن يكون أسرة وينجب أطفالًا.. ثم يتراجع مؤثرًا السلامة فى أحضان العزوبية.. مؤكدًا أن الإنسان الذى يتزوج يلقى بنفسه فى أحضان جلاده.. وتبرق فى ذهنه فكرة أن يقود ثورة.. ولكنه ما يلبث أن ينتبه إلى العواقب الوخيمة.. فالثائر إما أن يقتل.. أو يسلخ جلده.. أو يلقى القبض عليه.. حتى ينتهى به الأمر إلى أن يعرب عن رغبته لعبده فى أن يقدم خدمة عامة لبلاده.. سوف يدق عنق عبده ويلقى به فى البحر.. لتصفو نفسه المضطربة المتعطشة إلى العدل.. ذلك أن العدل كما يراه هو أن يتخلص من عذاب ضميره الذى يؤرقه بوجود العبد وبذلك يحقق السعادة لنفسه الحائرة.
وشكسبير له قول مأثور عن شعره: «طالما كان الرجال يستطيعون التنفس والعيون بمقدورها الرؤية سيظل شعرى حيًا».
نقلا عن المصرى اليوم